جرت تسمية الحضارة الغربية باسم الحضارة المسيحية آناً والحضارة المسيحية اليهودية آناً آخر، لكن من أين جاءتهم هاتان الديانتان؟. إنهما جاءتا من مهدهما ومهبط وحيهما، الشرق الأوسط. وهو المكان الذي اختاره الله ليكون مهبط وحيه إلى موسى وعيسى ومحمد، عليهم السلام، وأقل ما يقال في ذلك، إن كان من خصائص العقيدتين أن تطبع العقل بطابع معين في الفكر والعمل، فيستحيل أن يكون ذلك الطابع غريباً على أهل الشرق الأوسط الذين تلقوهما وآمنوا بهما قبل أن ينقلاهما إلى بلاد الغرب. لقد كانت الإسكندرية حامية للمسيحية في قرونها الأولى، وفيها بدأ اللاهوت المسيحي للمرة الأولى، ينسق بين العقيدة من جهة والعقل الفلسفي من جهة أخرى، وهو ما رسم الطريق أمام أوروبا المسيحية بعد ذلك طوال العصور الوسطى، كذلك احتضان المسلمين العرب لليهود على مر العصور، وذلك دليل على اجتماع أمرين لأهل هذه المنطقة، القلب والعقل معاً، الإيمان والعلم معاً، اللمسة المباشرة ومعها عملية التحليل العقلي، لا الكراهية والنبذ. إن «أوريجن» (185-245م)، وهو معاصر لأفلاطين (ولد سنة 205م)، أب من آباء الكنيسة الإسكندرية، قد بذل جهداً في تثبيت العقيدة المسيحية عندما كانت لا تزال تتعرض لهجمات المنكرين، ومن أهم ما قاله وأيده بالأدلة هو أن الفلسفة اليونانية القائمة على العقل المنطقي الصرف، والأناجيل القائمة على الإلهام والوحي الصرف، إنما يتطابقان ولا يتعارضان، وهو ما يبين أن العقل والنقل يسيران معاً ولا يتناقضان، ولا يخفى أن هذا هو الأساس الذي قامت عليه فلسفة العصور الوسطى كلها في الشرق الأوسط الإسلامي وفي الغرب المسيحي على السواء، إذ أخذ الفلاسفة، في كل منهما، يحاولون البرهان على أن الوحي الديني ونتاج العقل الفلسفي اليوناني ينتهيان في آخر الأمر إلى نتيجة واحدة. وأوريجن حين قال ذلك عن الأناجيل، لم يفته أن يؤكد أن صحة ما قد ورد فيها ليس مترتباً على صدق الفلسفة اليونانية، بل الإنجيل يحمل برهان نفسه بنفسه، وهو أقدس من أي برهان أقامه فن الجدل اليوناني. فحضارة الغرب كلها ترتد إلى أصول ثلاثة: اليونان، وفلسطين، ومصر؛ فمن اليونان فلسفة، ومن فلسطين دين، ومن مصر علم وصناعة. ولقد اجتمع كثير من هذه العناصر دفعة واحدة في شوارع الإسكندرية القديمة، إذ التقى رجال العلم بأصحاب النظرة الصوفية وأصحاب المهارة العملية في آن معاً، وحين انتقل مركز الثقافة من أثينا إلى الإسكندرية لم تكن النقلة تغييراً في المكان وكفى، بل كانت تغييراً في منهج التفكير كذلك، حتى جاز لمؤرخي الفكر أن يفرقوا بين مرحلتين يطلقون عليهما اسمين مختلفين هما: الهلينية، والهلنستية، فالكلمة الأولى اسم لفلسفة اليونان الخاصة، والكلمة الثانية اسم لتلك الفلسفة نفسها حين امتزجت في الإسكندرية بالتراث الديني والتراث العلمي والتراث الصناعي العملي، فقد أدى هذا المزيج إلى ضرب من الثقافة فيه تأمل وتحليل، وفيه عبقرية الشرق وعبقرية الغرب مجتمعتين. في العصور الوسطى الأوروبية ساد تعبيران في الوسط الثقافي رفيعان وهما مصطلحان يسميان «العلم العربي Arab Science» و «العلم الإسلامي Islamic Science»، وكما هو معلوم بالفعل فإن كثيراً من الازدهار في ذلك الزمان والمكان لم يكن حكراً على العرب كعرب، ولم يكن كذلك عمل المسلمين تماماً، فالفرس واليهود والنصارى السريان، والترك، والكرد وغيرهم، كل أولئك لعبوا أدواراً حاسمة في جميع فروع العلم واللاهوت والفلسفة. لكن هذا العمل كان يجري غالباً باللغة العربية، وكثيراً ما كان يجري برعاية الحكام العرب، الشرق أوسطيين، ولا سيما الخلفاء الأمويين والعباسيين، بدمشق أولاً ثم بغداد. وكان على من يود من علماء الغرب في العصور الوسطى الاطلاع على آخر المستجد في مجاله عليه الابتعاث إلى الشرق الأوسط لإتقان اللغة العربية، أو العمل استناداً إلى الترجمات التي قام بها من تعلم هذه اللغة في الشرق الأوسط. لكن مع الأسف كان حكم التاريخ على هذه المنطقة قاسياً، وما كان ذلك إلا لأن أقلاماً تجاهلت عامدة أهمية المكان وأهله، ولا يزال هذا التجاهل قائماً إلى اليوم، تقذف به المناوشات إلى كل جانب، لا يؤازر ساكنيه، ونسوا تعاليمه، وهو دَينٌ أقر به آديلارد أوف باث قبل قرون عدة في طريق عودته من أنطاكية، إذ يؤكد لقرائه: «أن الله بالطبع يحكم الكون لكن يحق بل ينبغي لنا النظر في ملكوت العالم الطبيعي، ذلكم ما يعلمناه العرب». * كاتب سعودي.