تموج الأوساط السياسية والدوائر الإعلامية المصرية بدعوات عديدة لإرجاء الانتخابات البرلمانية المرتقبة في مصر إلى أجل غير مسمى، على خلفية مخاوف من إمكان عرقلة البرلمان الجديد عمل رئيس الجمهورية باستخدام الصلاحيات والسلطات غير المسبوقة التي خوَّلها الدستور لمجلس النواب، فيما يرى كثيرون أن مصر خلال هذه المرحلة الانتقالية الحرجة أحوج ما تكون إلى سلطة تنفيذية قوية تقود البلاد إلى العبور من الثورة إلى الدولة. فعلى غير المعتاد أو المتعارف عليه في الدساتير المصرية السابقة، منح الدستور المعمول به حالياً والمعتمد في العام 2014، مجلس النواب سلطات واسعة جعلت منه شريكاً أساسياً لرئيس الدولة في إدارة شؤون البلاد، فقد أعطى المشرع للبرلمان حق إقرار تأليف الحكومة من عدمه، كما عزز دوره الرقابي على أعمال السلطة التنفيذية. وبينما تشترط المادة 142 من الدستور لقبول الترشح للرئاسة أن يحصل المرشح على تزكية عشرين عضواً على الأقل من أعضاء مجلس النواب، كبَّل الدستور غالبية صلاحيات رئيس الجمهورية ورهنها بموافقة مجلس النواب، فبينما نصت المادة 147 على أن «لرئيس الجمهورية حق إعفاء الحكومة من أداء عملها، اشترطت موافقة غالبية أعضاء مجلس النواب. كما رهنت حق رئيس الجمهورية في إجراء تعديل وزاري بالتشاور مع رئيس الوزراء وموافقة مجلس النواب بالأكثرية المطلقة للحاضرين وبما لا يقل عن ثلث أعضاء المجلس». ولم يسلم الدور التشريعي لرئيس الجمهورية من سطوة البرلمان، فوفقاً للمادة 226 من الدستور، يحق لرئيس الجمهورية، أو لخُمس أعضاء مجلس النواب، طلب تعديل مادة أو أكثر من مواد الدستور، مع ذكر المواد المطلوب تعديلها وأسباب التعديل في الطلب، وعلى مجلس النواب مناقشة الطلب خلال ثلاثين يوماً من تاريخ تسلمه، ويصدر المجلس قراره بقبول الطلب كلياً أو جزئياً بغالبية أعضائه، وإذا رفض الطلب، لا يجوز طلب تعديل المواد ذاتها قبل حلول دور الانعقاد التالي. وفي حال الموافقة، تناقش نصوص المواد بعد ستين يوماً من تاريخ الموافقة، ثم تطرح للاستفتاء عليها. وفي حين نصت المادة 151 على أن «يمثل رئيس الجمهورية الدولة في علاقاتها الخارجية، ويبرم المعاهدات، ويصدق عليها بعد موافقة مجلس النواب، نصَّت المادة 152 على ضرورة حصول رئيس الجمهورية على موافقة مجلس النواب بغالبية ثلثي أعضائه، قبل أن يعلن الحرب أو يرسل القوات المسلحة في مهمات قتالية إلى خارج حدود الدولة، فإذا كان مجلس النواب غير قائم، يجب أخذ رأي المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وموافقة كل من مجلس الوزراء ومجلس الدفاع الوطني. كذلك، رهنت المادة 154 من الدستور إعلان رئيس الجمهورية حالة الطوارئ بضرورة عرض هذا الإعلان على مجلس النواب خلال الأيام السبعة التالية، ليقرر ما يراه بشأنه. وأبقى الدستور تحديد مصير الموازنة العامة للدولة بيد البرلمان، فوفقا للمادة 124، يعرض مشروع الموازنة على مجلس النواب قبل تسعين يوماً على الأقل من بدء السنة المالية، ويتم التصويت عليه باباً باباً، ولا تكون نافذة إلا بموافقته عليها، كما يجب، وفقاً للمادة 125 من الدستور، عرض الحساب الختامي للموازنة العامة للدولة على مجلس النواب خلال مدة لا تزيد على ستة أشهر من تاريخ انتهاء السنة المالية، ويعرض معه التقرير السنوي للجهاز المركزي للمحاسبات وملاحظات على الحساب الختامي الذي يتم التصويت عليه باباً باباً ويصدر بقانون. وعلاوة على حق مجلس النواب في مراجعة التشريعات التي يصدرها رئيس الدولة، بات له مطلق الحق في رفضها إن شاء، بل أصبح للمجلس حق عزل رئيس الجمهورية شخصياً. ومن جهة أخرى، لم تحل الصلاحيات الواسعة التي خوَّلها الدستور للبرلمان دون وجود كوابح تلجم تلك الصلاحيات، استناداً إلى مبدأ التوازن بين سلطات الرئيس وصلاحيات مجلس النواب، بحيث يملك كلاهما أدوات دستورية تحميه من تغول الطرف الآخر. فإذا كان الدستور منح رئيس الجمهورية حق حل مجلس النواب، أو أعطى ذلك الأخير حق سحب الثقة من الأول، فإن المشرع الدستوري ألزمهما معاً في النهاية باللجوء إلى الناخب لتفعيل ذلك الحق من خلال استخدام آلية الاستفتاء الشعبي على القرار المتخذ بهذا الصدد. فبينما أقر الدستور بحق مجلس النواب في توجيه اتهامات للرئيس بانتهاك الدستور أو الخيانة العظمى أو أي جناية أخرى، منح المشترع الدستوري رئيس الدولة صلاحيات يمكن أن تلجم البرلمان وتكبح جماح أي شطط سياسي من جانبه. فقد أعطى الدستور الرئيس حق حل مجلس النواب، إذ نصت المادة 137 على أن «لا يجوز لرئيس الجمهورية حل مجلس النواب إلا عند الضرورة، وبقرار معلَّل، وبعد استفتاء الشعب، ولا يجوز حل المجلس للسبب الذي حل من أجله المجلس السابق. ويصدر رئيس الجمهورية قراراً بوقف جلسات المجلس، وإجراء الاستفتاء على الحل خلال عشرين يوماً على الأكثر، فإذا وافق المشاركون في الاستفتاء بغالبية الأصوات الصحيحة، أصدر رئيس الجمهورية قرار الحل، ودعا إلى انتخابات جديدة خلال ثلاثين يوماً على الأكثر من تاريخ صدور القرار». على صعيد آخر، منح الدستور الرئيس حق تعيين 5 في المئة من نواب البرلمان، وهذا الأمر يعادل 23 نائباً على الأقل، فضلاً عن حقه في دعوة البرلمان لاجتماع عادي وغير عادي. وفي الشأن التشريعي، يحق لرئيس الدولة اقتراح القوانين، وإصدار قرارات لها قوة القانون عند الضرورة، وفي غياب مجلس النواب، على أن تعرض عليه عند انعقاده لإقرارها أو رفضها مع إقرار المجلس بقاء أثرها إن شاء، فإذا لم تعرض زال أثرها. عوائق في وجه البرلمان وإضافة إلى ما ذكر آنفاً، تبرز بهذا الصدد معطيات ثلاثة مهمة: أولاها، أنه لن يتسنى لمجلس النواب الاضطلاع بكل هذه الصلاحيات الممنوحة له من دون حد أدنى معقول من التناغم أو التوافق بين غالبية نوابه، وهو ما قد لا يتأتى حالياً بسبب أجواء الاستقطاب السياسي وحالة الموزاييك السياسي التي يتسم بها البرلمان الجديد. وثانيها، أن الثقافة والإرث السياسيين لدى المصريين قد جبلا على تمحور النظام السياسي حول شخص الزعيم أو القائد السياسي الذي يجسده رأس السلطة التنفيذية، فرعوناً كان أو ملكاً أو سلطاناً أو حتى رئيساً منتخباً. ورغم أن الدستور الحالي خوَّل البرلمان صلاحيات غير مسبوقة في مواجهة رئيس الدولة المنتخب، فإن تطبيق النصوص الدستورية المتعلقة بهذه الصلاحيات البرلمانية الجديدة وتفعيلها على أرض الواقع قد لا يتأتيان بين ليلة وضحاها، خصوصاً مع وجود رئيس يحظى بشعبية واسعة في مواجهة برلمان منقسم ومتشرذم ولا يخلو من رموز أنظمة سياسية يمقتها غالبية المصريين. أما ثالثها، فيتجلى في انزلاق السياسة في مصر إلى حافة الاحتضار على نحو تجلى في استعصاء تهيئة البيئة القانونية والسياسية والأمنية لإنجاز الاستحقاق الثالث والمؤجل من خريطة المستقبل والمتمثل في الانتخابات البرلمانية، سواء بفعل انحسار الحيز المخصص لها داخل المجال العام لمصلحة اتساع مساحة المحتوى الترفيهي، الذي لم يتورع عن الانزلاق في براثن الابتذال، أو بجريرة يأس غالبية المصريين من جدوى الاهتمام بالسياسة وشؤون السلطة والحكم. تبقى الإشارة إلى أن المخاوف من إمكان عرقلة البرلمان لعمل الرئيس لم تكن لتغلق الباب كلياً أمام احتمالات أن تتسم العلاقة بين الرئيس ومجلس النواب بالتعاون والتفاهم حول أمور عدة، كالأجندة التشريعية والخطة والموازنة العامة للدولة والسياسة الخارجية. بيد أن هذا السيناريو يستوجب توافر واحد من أمرين: فإما تعامل الجانبين أحدهما مع الآخر بمسؤولية ووطنية، انطلاقاً من خصوصية المرحلة الصعبة التي تمر بها البلاد، وإما أن تكون الغالبية في البرلمان تضم خليطاً من الأحزاب المساندة والداعمة للرئيس، بالإضافة إلى المستقلين الذين ينتمون إلى التيارات القومية المدنية والليبرالية. وفي حال حدوث ذلك، سيتسنى للرئيس تمرير حكومته من البرلمان من دون الرجوع إلى الحزب أو الائتلاف الحائز أكثريته من المرة الأولى، وهو ما سيحرص الرئيس عليه في أول اختبار له لشكل العلاقة بينه وبين البرلمان. بيد أن لهذا السيناريو الأخير مثالب شتى، أبرزها قدرة الرئيس على تمرير ما يشاء من قوانين وقرارات من دون عرقلة من البرلمان، الأمر الذي من شأنه أن يحول دون تأدية الأخير مهماته الممثلة في التشريع والرقابة على السلطة التنفيذية بالكفاءة المطلوبة أو المتوقعة لبرلمان جاء بعد ثورتين شعبيتين، ما قد يرتد بالبلاد إلى عهود هيمنة السلطة التنفيذية على التشريعية، إلى الحد الذي يقوض عملية الانتقال الديموقراطي القلقة والمستعصية. * كاتب مصري