هذا المقال تحية لكل من يعمل في صمت. وتحية لكل من يبذل وقته وماله من أجل الفن ونشر الجمال في حياة الناس. أي لكل من يعمل من أجل ارتقاء الحياة. وتحية للفنان ومؤرخ الفن يسري القويضي، الذي يمثل كل هؤلاء، في عيد ميلاده الخامس والسبعين. عرفته شخصياً منذ سنوات هادئاً دمثاً متواضعاً بسيطاً، حريصاً على المعرفة، متابعاً للحركة التشكيلية في مصر والعالم، ساعياً إلى شباب الفنانين الواعدين قبل الكبار المشهورين. تكونت لديه من إقامته الطويلة في قارات العالم المختلفة ثقافة موسوعية أثراها حبه للموسيقى الكلاسيكية. يبدع لوحاته وكتبه في صمت. لا يجيد العلاقات العامة ولا يسعى وراء الإعلام ليظهر. يحتمي بعزة نفسه. يعرف أن كتب الفن التشكيلي ليس عليها إقبال عند العرب فينشر كتبه على نفقته الخاصة متحملاً خسائر مؤكدة. لا يهمه. المهم أن يترك ما يمكث في الأرض. يسري القويضي، السفير السابق، واحد ممن أغوتهم موهبتهم فعشقوها بجوار عملهم الأصلي. أذكر منهم من الديبلوماسيين السابقين المصريين: الرائد الراحل محمد ناجي، ومن المعاصرين فخري عثمان وعصام حنفي ومحمد نجيب ومصطفى خضر ومصطفى أحمد مصطفى. لكن أبرزهم فناً هو القويضي. وأذكر من الديبلوماسيين العرب الذين أخذتهم غواية الرسم أحمد السنوسي المندوب الدائم للمغرب في الأممالمتحدة لسنوات طويلة، والديبلوماسي السعودي عبدالرحمن الثاقب. فقد ولدوا بموهبة مسيطرة، وعاشوا حياة مزدوجة ومتناقضة بين حرية الفن وقيوض الديبلوماسية، لكن الحرية تنتصر في النهاية. كان القويضي موهوباً في الرسم منذ طفولته. كان عمره ثماني سنوات عندما رسم خاله وهو يدخن الغليون، فأظهر حساً مبكراً بالمنظور مع خطوط واثقة وعين ترصد. لكن والده كرر معه التصرف التقليدي الذي كرره كثير من الآباء مع أبنائهم، فرفض أن يلتحق ابنه بكلية الفنون الجميلة ليصبح «رساماً»، وأدخله كلية التجارة في جامعة القاهرة. الغريب أن والده وخاله كانا يهويان الرسم ويمارسانه لكنهما لم يتعلماه أكاديمياً. فكررا القصة مع الفتى يسري. كانا في الوقت نفسه أول من علما الفتى تقنيات الرسم. ثم واصل سيره ما بين الحياة الرسمية والعشيقة، وجمع بينهما بنجاح نادر. التحق بعد حصوله على البكالوريا بدورة صيفية للرسم بالفحم وجربه في التعبير عن مثاليات المراهقة. أثناء دراسته الجامعية تعرف على رسوم الشاب منير كنعان، رائد فن الكولاج والتجريد الهندسي الحديث في العالم العربي. فجرَّب يسري التجريد في موضوعات تشخيصية وواقعية. عرَّفه خالُه الديبلوماسي هاوي الفن سعد الفطاطري على الفنان والناقد حسين بيكار في أوائل ستينات القرن الماضي، فتعلم منه درساً في الألوان، بخاصة في استخدام ألوان الجواش، ما أحدث «طفرة كبيرة في أعمالي»، على حد وصف يسري نفسه في كتابه «الهروب إلى واحة الفن» 2004. بعد أن أرضى يسري والده وتخرج في كلية التجارة العام 1961 حقق بعضاً من رغبته الأولى، فالتحق علناً بمعشوقته ودخل القسم الحر في كلية الفنون الجميلة الذي كان مفتوحا للهواة. هكذا قسَّم يومه بين العمل في وزارة الاقتصاد صباحاً ودراسة الفن مساء. لكن هذه القسمة لم تدم طويلاً. تقدم للعمل في وزارة الخارجية إرضاء هذه المرة لوالدته. وانتظم في السلك الديبلوماسي منذ 1962، وهكذا انقطع عن حياته السرية موقتاً. كان المؤثر الثاني في فن يسري القويضي هو الفنان العالمي بيكاسو الذي تأثر به عدد لا يحصى من الفنانين في العالم عبر أجيال، والذي تأثر به أيضاً مؤثره الأول منير كنعان. هكذا تأكدت شخصية فن القويضي: تكعيبية تجريدية بتجاربها في الخامات والألوان. فجرَّب في ستينات وأوائل سبعينات القرن الماضي الكولاج، مستخدماً الزوائل من أدوات عادية ومستهلكة ليخلدها في أعمال فنية، ماشياً على ما ابتدعه فنانو الدادا والسرياليون من بعدهم من الربع الثاني في القرن الماضي. استخدم تذاكر الباصات والصحف مع أوراق ملونة وعلب سجائر وكبريت ومسامير وزجاج، حتى مشابك الملابس المغسولة على حبال علقها بعرض اللوحة. فدخل عالم الحداثة ومن يوصفون ب «الطليعة» لدى كل جيل. المؤثر الآخر في إبداع القويضي كانت حياته في أوروبا والولايات المتحدة واليابان حيث عمل في سفارات مصر هناك. الغرب كان مؤثراً مشتركاً في الغالبية الكبيرة من الفنانين العرب منذ بداية الفن التشكيلي الحديث عندنا. ليس فقط التأثر بالفنانين التشكيليين، وإنما أيضاً بالحياة، بخاصة بالطبيعة والإبداع الفني المتنوع في الموسيقى والمسرح والأوبرا. هكذا أفاد الديبلوماسي الفنان فيه، موزعاً وقت فراغه القليل من عمله الرسمي بين متعة الفرجة والقراءة من جهة ورسم ما تيسر له من لوحات تهضم ما استفاده من جهة أخرى. واستقر الفنان على اتجاهه التجريدي الهندسي حتى في تعبيره التشخيصي. استفاد الديبلوماسي الشاب من عمله خارج مصر في تنمية إبداعه الفني، لكنه خسر في الوقت نفسه جانباً كبيراً من منجزات هذا الإبداع. مرة في القاهرة عندما كان يترك لوحاته في مخزن في بيت العائلة في القاهرة أثناء فترات إقامته الطويلة خارج مصر، فوجدها بواب البيت مفيدة له فاستعان بها في منافع له! ومرة أخرى في سفارة مصر في جاكرتا. فبعدما ترك عدداً من لوحاته معلقة في مقر السفارة بترحيب من السفير وقتها، جاء سفير آخر لا يحب التجريد ولا يفهمه فألقى بلوحات القويضي في المخزن وضاعت. هكذا تلاشى جانب من إبداع الفنان إلى الأبد مرة بفعل البوَّاب وأخرى بأمر السفير! وهكذا جمع فن القويضي بين بواب وسفير. ربما يكون المؤثر الأخير في فن القويضي ليس فناناً، ولكنه نوع من الفن. تعرَّف اليه أثناء عمله الديبلوماسي في طوكيو بين عامي 1989 و1991، وهو فن طي الورق الياباني. وقد بدا هذا التأثر في أعماله منذ عام 1998. تعامل مع طي الورق كأساس لبناء أعمال فنية. أعجبني تعبيره الذي شبَّه فيه هذا الأسلوب التشكيلي بموسيقى باليه «بوليرو»، من تأليف الفرنسي موريس رافيل. كلاهما يعتمد على تكرار اللحن ذاته مع تصاعد في الإيقاع. لم تخفت حداثة الفنان يسري القويضي مع تقدمه في العمر، بل زادت، فاتجه في العقد الأول من هذا القرن إلى التشكيل بالفوارغ البلاستيكية، وتعمَّد أن يعرض هذه التجربة تحت الأرض في محطة مترو دار أوبرا القاهرة لكي يصطدم بها الركاب، وخصَّص أول كتاب له عن هذه التجربة عام 2003. مع تقاعد الديبلوماسي، اشتعل إبداع الفنان ونشاطه وأثمر، عدا اللوحات، عشرة كتب في خمسة عشر عاما. كلها في الفنون التشكيلية، وكلها جديدة في موضوعاتها ومعلوماتها، ويحتاج الحديث عنها إلى مقال خاص. لكني أتوقف هنا عند كتابه المهم «المفاهيمية في التشكيل العربي» 2012، فهو يسُد فراغاً في المكتبة الفنية العربية، بخاصة للكتب المؤلفة وليست المترجمة. فهذا المصطلح ساده غموض وارتباك تزايد مع انتشار الأعمال الموصوفة بالمفاهيمية في الدول العربية. وهذا أمر عجيب حاول المؤلف توضيحه بسلاسة أسلوبه ووضوح عرضه مستعيناً بنماذج تطبيقية من أعمال فنانين مصريين وغير مصريين من الفنانين العرب. كما أتوقف عند كتبه التي أعاد فيها اكتشاف اثنين من رواد التصوير المصري الحديث، وهما لبيب تادرس وسند بسطا. الأول ولد عام 1894 ومات عام 1943، أما الثاني فولد عام 1903 ومات عام 1964. المدهش هو ذلك التشابه بين الاثنين: كانا صديقين، وينتميان إلى محافظة سوهاج في جنوب مصر، ولم يتعلما التصوير أكاديمياً في مدرسة أو معهد، وهما في ذلك كمؤلف كتابيهما، وأيضاً كانا يرسمان مناظر من الطبيعة والحياة اليومية ويفضلان رسم نماذج حية «موديل» وبالأخص العاريات. كان ذلك مباحاً ومتاحاً في مصر منذ بداية التصوير الحديث وحتى بداية انتشار الاتجاهات الإسلامية المتشددة من ثمانينات القرن الماضي، والتي استطاعت منع تصوير الموديل العاري في كليات الفنون الجميلة نفسها. أظهرت لوحات لبيب تادرس وسند بسطا موهبة فذة وقدرة جيدة في رسم المنظور والجسد الإنساني بكل تفاصيله وحساب النسب على رغم عدم دراستهما الفن أكاديمياً. كما أظهر كتابا يسري القويضي عنهما تفاصيل فنية أخرى وإنسانية مهمة وجانباً مضيئاً من الحياة التشكيلية والعامة في مصر في النصف الأول من القرن العشرين. كذلك فعل مؤرخ الفن يسري القويضي مع فنانين رائدين آخرين لكنهما ذائعا الصيت هما محمد ناجي وأخته عفت. فقد اشترك مع صديقه الفنان المعروف ومؤرخ الفن أيضاً عصمت داوستاشي في كتابة كتابين عن ناجي (1888 – 1956) الأول يقدم فيه بالوثائق والصور الفوتوغرافية معلومات ووقائع لم تكن معروفة عنه على المستويين الشخصي والفني. والثاني عن حياة محمد ناجي في الحبشة «أثيوبيا» طيلة عام 1932 حيث ذهب ليصور الإمبراطور هيلاسيلاسي. وقد نشر فيه للمرة الأولى رسائل ومفكرة ناجي نفسه مترجمة من اللغة الفرنسية. كذلك فعل في كتابه عن الفنانة عفت ناجي، معتمداً على أوراقها وخطاباتها، بخاصة المتبادلة مع أخيها ومع زوجها الفنان سعد الخادم، ومستنداتها الشخصية التي تنشر للمرة الأولى. بذلك قدم يسري القويضي خدمة مهمة للفنانين ومحبي الفن التشكيلي بخاصة نقاده ومؤرخيه. وكما أثرى الحركة الفنية بلوحاته، أثرى المكتبة الفنية والحياة الثقافية بكتبه.