يراكم الكاتب العراقي عبدالهادي سعدون تجربة مميزة، في أكثر من نوع أدبي، فهو يكتب الشعر والقصة وأصدر رواية اعتبرت واحدة من أهم الروايات حول الواقع العراقي وأيضاً ترجم عدداً من الدواوين والكتب عن الإسبانية. وعلى رغم هذا التنوع في الحقول الأدبية، وما تطلبه من وعي عميق وخبرة وتمكّن في الأدوات واللغة، فإنه يكتب كما لو يكتب نصاً واحداً، نصاً ينطوي على لحظات لئن اختلفت فإنها تلتئم في سياق واحد، جوهره المسؤولية تجاه الكتابة وما تطلبه من مثابرة وتمهّل وإخلاص. يكتب عبدالهادي الذي يعيش في إسبانيا منذ أكثر من عقدين، بالالتزام نفسه والخشية ذاتها من ألا يستوقف القارئ ما يكتبه، لذلك فهو شديد الحرص على تجويد الكتابة. لا يذهب صاحب «تأطير الضحك» إلى طاولة الكتابة وهو يعرف تماماً أن ما يشتغل عليه هو أدب حقيقي أو أدب يطبعه التجريب أو الحداثة المميزة للعصر، «همي الوحيد في كل ما كتبته هو أن يدرك القارئ أنه أمام نص لا يمر بسهولة ويحتاج للقراءة أكثر من مرة. لم أنتبه بالمرة إلى فكرة الحداثوية والتجريب إلا من داخل السرد نفسه وعملية التجديد في اللغة والأسلوب، لهذا تكلمت ولا أزال عن الكتابة الناضجة المتمهلة». كما لا يسعى لمجد في الكتابة، ولا يهمه أن تباع كتبه بالآلاف، كما يذكر. متعته أن يُذكر بكتاب واحد بعد عشرات السنين من النشر والكتابة، «أعرف أن كل ما يتمناه الكاتب هو أن يبقى اسمه طرياً في سجل الأدب، وهي صفة الكتابة الجيدة، وأعرف أن كل شيء معلق بخيط رفيع». «مذكرات كلب عراقي» رواية ليست تقليدية. ولأن كل مأساة تولّد طرائق جديدة لمقاربتها، لتبقى متجددة، فقد اختار لروايته بطلاً لم يخطر على بال أحد، ليتقنع خلفه ويروي المأساة العراقية على طريقته. صعب على صاحب «انتحالات عائلة» أن يقول المأساة عبر شخصيات آدمية، فجرب أن يدونها على ألسنة حيوانات، مستفيداً من النماذج الأدبية التي استلهمت الحيوانات في متن الحكاية، ومنها «كليلة ودمنة»، «وإن خالفتها بالخروج من تعليميتها المفرطة وهي نتاج قرون سابقة». كذلك تأثر، كما يذكر، بنموذج الكتابة الصعلوكية (البيكاريسكية) بكل أصنافها المشرقية والعربية، إضافة إلى سرفانتس، «عوالم الحيوانات هي سنارة التعلق بموضوعة أكبر لم أجد لها حلاً إلا عبر هذه الكائنات التي مدتني بالشجاعة والحكمة على مدى أشهر كتابتها». يتقاطع في الرواية مسارا الكلب ليدر والواقع العراقي، وبمقدار ما تحكي الرواية تطورات الأحداث بالنسبة للكلب، تضيء في شكل تراجيدي، لحظات مهمة من واقع العراقيين، حتى تلك اللحظات التي تحول فيها الكلب الذي يتحدث لغات ويتأثر بسيده، إلى متوحش بدا أنها انعكاس للوحشية نفسها التي أصبح عليها العراقي، في ضوء واقع لا معالم له، «لا أعرف هل أنا الذي نجحت ككاتب بتدوين مذكرات الكلب المدعو ليدر، أم إن ليدر قد ساعدني ومنحني فرصة إتمام رواية عن العراق المعاصر أرقتني وأتعبتني على مدى سنوات. في كل تلك الفترة كنت أشعر أنا الإنسان المستلب من قسوة الواقع بنظرة تعاطف الحيوانات الأليفة التي رافقتني في تلك الرحلة المضنية. يمكنني الإضافة هنا أن «ليدر» هو أنا نفسي المختفي بلباس وفروة وزمن لم أتميزه في شكل كبير، حتى لو اختلفت وإياه بتفاصيل وآراء ومحن ومصائب أخرى». يتبدى عبدالهادي سعدون، الذي فاز بجوائز عربية ودولية وترجمت كتبه إلى عدد من اللغات، حكاء من طراز رفيع، وحكاياته لا تشبه أي حكاية سبق لنا قراءتها، حكاية تتخطى حتى مفهوم «السهل الممتنع»، تنطوي على منطقها الخاص بها، وتلامس ما تريد ملامسته في مخيلة القارئ. يقول صاحب «كنوز غرناطة» أنه تعلم من الحكواتية والأساطير والحكايات الشعبية الكثير الذي ساعده على كتابة نص جديد بالروحية الحقيقية للنص المحكي، «كثيراً ما شعرت بقرب كل تلك العوالم وطرقها مني، فيا ليتني كنت حكواتياً حقيقياً أفرغ من إنجاز حكايتي ما إن أسردها على الجمع دفعة واحدة كما أفعل في أحيان كثيرة، سواء في غرفة مغلقة أو أمام حشد في ساحة عامة... حكاياتي لا تدعي الاختلاف عن كل تلك العوالم، سوى بخصوصيتها وطرق تمريرها». تبدو مدريد والمكان الإسباني في شكل عام مكوناً أساسياً في نسيج النص القصصي الذي تكتبه، أتكلم عن مجموعة «توستالا» لا يظهر مكاناً نافراً ولا طارئاً، إنه مندغم في شكل عضوي بالنص، يكسبه طابعه ويفيض عليه من فرادته. أيضاً المكان الإسباني يلوح من خلال تلك الروح التي تهيمن على النص والأجواء التي تغلف الشخصيات، وعليه لا تبدو متذمراً من المكان ولا تشتكي من غربة فيه، كيف خلصت إلى هذه المصالحة مع مكان الاغتراب؟ - الواحد منا عليه إيجاد طريقة للتصالح مع الذات قبل التصالح مع الوطن الأم أو الوطن الجديد، وهي مهمة إن لم أقل مستحيلة فهي عسيرة بالمرة. لكن المعرفة بالذات والتقابل مع الواقع هي الخطوة الأولى نحو هذا التقارب وهذا الفهم الممكن. إن كل تقابل وتلاقح واندماج في مجتمع جديد ليس معناه الانسلاخ والتذويب والفقدان، بل العكس في رأيي فهذا معناه أكبر بكبير وهو الانوجاد والإصرار والتحرر. إن التخوف من مسألة الانسلاخ وفقدان الهوية لا يؤمن بها سوى ضيّقي الأفق والراديكاليين بالضرورة، فالمجتمعات والثقافات واللغات ليست غولاً قادراً للانقضاض على البشر... أنا مصرّ على أن التلاقح الثقافي أغنى بكثير من الانعزال الثقافي، والدليل ما نراه في شعوبنا وشعوب أخرى بعيدة جداً من معنى هذه المفردة أو الإيمان بها. غالبية نصوصي إن لم أقل كلها كتبت في إسبانيا الأرض والمناخ، وعليه لا بد من أن تتطبع وتجد واقعها فيه وعبره حتى لو كانت كل شخوصي عراقية بحتة. لا يمكنني الكتابة عن بلد آخر ومدينة أخرى مثلما أكتب عنا في مدريد أو أية مدينة إسبانية أخرى، فهذا هو الأقرب لي والأكثر واقعية ومغزى. لكنك تعود إلى بغداد. تسيح نصوصك في جغرافيا كونية، ثم تؤوب إلى العراق، يبدو أنه لا فكاك من الحاضنة الأولى. - أرى أن الكاتب حتى وهو في معادلة تصفية دائمة مع الوطن أو أي تسمية أخرى إنما ينطلق من واقع علاقته الحميمة بالأرض الأم، وهذه الحال لا تنطبق على الكاتب المنفي فحسب، بل تشمل حتى كاتب الداخل الذي لم يغادر مدينته حتى، وإلا فسيكون حكم الكتابة نصاً ميتاً في كل المستويات لا يعتمد سوى على سرد حكاية والبكاء على أطلال أو تقصي ذكرى. وهذا على أي حال ليس انتقاصاً من وطن أو تشفياً، بل هي حالة نزاع داخلي مع الذات في رفض ما يخرج عليها... في نصوص عدة لي يحاول البطل الهروب ورفض ولعنة كل ما له صلة بالوطن، وهو الذي في حقيقته محاولة اقتراب وإيجاد ومراجعة في آن واحد. إن الوعي بالمسألة يحيل الوطن إلى قضية تفاعلية وإن جاءت بصيغ وأساليب تناول مختلفة. خوان غويتسولو الروائي الإسباني المعروف، كتب معظم أعماله الهدمية الانتقامية من إسبانيا في عهد فرانكو وبعده، ليصل إلى رغبة انكشاف ذاته وتوازنها وإعادة بنائها. في كل هدم ومحاسبة، إنما نرغب في المطالعة ومعرفة الآخر الذي قد نجده أكثر اغتراباً من الأصل الذي نحمله عنه. تحضر في نصوصك عبر الاسم الصريح وعبر الأصدقاء المعروفين وهواجسك ككاتب، لكنه حضور أكثر تعقيداً من مجرد سيرة، يوجد لعب وتلاعب وتلذذ في استدراج كل ما هو شخصي، أو ما يعد به من مفاجآت لتشحن النص بطاقة تخييلية تفوق قدرتنا أحياناً على استيعابها. - في كل نصوصي تقريباً هناك لعب حكائي يستفيد من السيرة الذاتية في شكل كبير. لا أدعي أن كل ما يدور في كتبي له علاقة مباشرة بي، بل يمكنني القول أن سيرتي وخبراتي الحياتية وضعت بخدمة نصوصي المكتوبة للاستفادة منها في شكل أو في آخر، حتى تلك التي تسير خارج سرب حياتي الخاصة. هناك (خيال مضطرب) ولتسمح لي أن أحصرها بين قوسين، خاص بنصوصي كلها، تخييل إيهامي له علاقة غير مباشرة بالمتن الواقعي للطرف الآخر. أسميه مضطرباً لعلاقته المتأزمة ما بين الأخذ والطرد من داخل الدائرة المرئية نفسها، وهي حقلي الحقيقي. إن اسمي وهواجسي وأماكني وعلاقاتي كلها متناثرة في دائرة نصوصي الكثيرة، بحيث يصعب عليّ أنا نفسي تخليصها من شوائب الخيال وردها للواقع، والعملية صائبة في شكل معكوس. هل أكرر هنا ما قاله بورخيس بأنني شخص من صنع كتبي، هو ذاك إلى درجة أنني أتعاطف مع هذا الكائن المشتت المضطرب وأقيس قوته بقوة انتحالاته في نصوصه السابقة والمقبلة؟ ترجمت عدداً من الكتب عن الإسبانية، كيف تجد نفسك كمترجم، هل تبقى على مسافة من النص، أم إنك تنغمس فيه بالكامل تحويراً وإعادة صوغ، بحثاً عن الصورة الأمثل لروح النص الأصلي؟ - رغبة الترجمة تأتي متوازية مع الكتابة، وأنا أشعر بقيمتها وأهميتها لي كمثقف يعيش في مجتمع ولغة وإبداع لا بد من قراءته، وبالتالي نقل ما أستطيع منه للقارئ العربي، صلتي الأساسية الأخرى. دائماً ما أقول أن مهمة المبدع بمعرفته لغة أخرى هو أن يساهم بما يستطيع من ترجمة آداب تلك اللغة التي يتقنها، لا سيما أن مشاريع الترجمة العربية الرسمية كانت وستظل قاصرة عموماً. بقي أن عملية الترجمة وإن جاءت بالنسبة لي كهواية، فأنا كنت ولا أزال هاوياً ولست محترفاً، ساعدتني على صقل عوالمي الأدبية وعلى القراءة في شكل واعٍ. من بين كل الأنواع الأدبية التي يكتب فيها، يميل عبدالهادي سعدون إلى القصة وعوالمها، «إنني شغوف جداً بالقصة القصيرة وأجدني أقرب لها في الكتابة وهي التي تحويني كلياً وتنشط مسارات الحكي في داخلي». وكل قصصه، كما يذكر، تنويعات على النص نفسه، بحيث لو تجمعت كلها لأشارت إلى نص واحد متكامل، «فكرة التشظي والتغاير والتقريب ما بين قصة وأخرى ونص وآخر جربتها في أكثر من كتاب وفي كل جديد لي أمر بالتجربة ذاتها بصيغة معينة قد تكون مرئية في شكل أكبر أو مندمجة ومضمرة داخل نسيج النص نفسه». فاز عبدالهادي بجائزة أنطونيو ماتشادو الإسبانية عن كتابه «دائماً». صاحب «ليس سوى ريح» رأى في الجائزة العالمية التي تمنحها وزارة الثقافة الإسبانية ومؤسسة الشاعر المعروف ماتشادو في مدينة صوريا، تقويماً عادلاً أدخل إلى نفسه الاطمئنان بجدوى الكتابة. طبع الكتاب الفائز وقدم في مناسبات عدة وفي مدن وملتقيات مختلفة. فالجوائز، من وجهة نظره، ليست بقيمتها المادية دائماً، إنما في ما يأتي بعد ذلك من تقويم وترويج وتنبيه للآداب العربية الجديدة، «هذه الجائزة الشعرية أتاحت لنصوصي الأخرى السابقة، والتالية أن تصل إلى القارئ الإسباني وأن يحتفى بها في مهرجانات وملتقيات ناطقة بالإسبانية سواء في إسبانيا نفسها أم في دول أميركا اللاتينية التي زرت معظم بلدانها في مناسبات مختلفة». سعدون يعترف بأن اللقاءات المتتالية مع أدباء البلدان الناطقة بالإسبانية، التي أتاحتها له الجائزة، جعلهم يتنبهون للأدب العراقي والمطالبة بالمزيد منه، معتبراً أن هذا في حد ذاته تقويم كبير.