يجب الاعتراف، وفي شكل واضح تماماً، بأن الأغنية اللبنانية في حاجة الى شعراء، بالقدر نفسه الذي تحتاج فيه الى ملحنين، بالقدر نفسه الذي تحتاج فيه الى مغنين ومغنيات ذوي موهبة وذوي ثقافة. وإذا كان التركيز يتم غالباً على فقدان الأصوات القديرة التي تغطي مساحة عريضة من الألوان الغنائية بدلاً من تغطية لون واحد يتحول مللاً قاتلاً لفرط تكراره، وعلى فقدان الملحنين الذين يتجاوزون نطاق الجملة المستعادة أو المسروقة من هنا وهناك إلا في ما ندر، فإن التركيز ينبغي أن يكون أيضاً على فقدان شعراء يقدمون للأغنية اللبنانية نصوصاً مختلفة في الأسلوب والمضمون، وهذا منشأ المشكلة في ما يسمى غياب التجديد في الغناء اللبناني منذ سنوات ليست بقليلة. النصوص الغنائية - اللبنانية تعاني فقراً «ساطعاً» في المخيلة، في الأفكار، وحتى في التقاط الحالات العاطفية التي يمكن الأخذ منها لكتابة مواقف.. بين العاشقين، على اعتبار أن أغلب الغناء هو غناء عاطفي، ويتوجه الى أهل الغرام. والشعراء الذين يكتبون نصوصاً هم صنفان: صنف لا يستطيع أن «يأتي» بأكثر مما يأتي، وبالتالي فإن علاقاته مع هذا الملحن أو ذاك، وهذا المغني أو ذاك هي التي «تفرضه» نظراً الى قدراته «العادية» في الشعر، وهؤلاء مرغوبون لدى كثير من الملحنين لأنهم يقبلون بما يطلبه.. الملحنون. وصنف يستطيع أن «يأتي» بأكثر مما يأتي شعرياً، لكن «السوق» تمنعه من الخروج من البوتقة «المطلوبة» انتاجياً، فيرضى بتقديم ما يريده «السوق» حفاظاً على لقمة العيش.. والشهرة معاً. وفي الحالين، ومع الصنفين، فإن الأغنية اللبنانية تسجل تراجعاً غريباً في سباق الأغاني العربية، إذ أن الأغنية الخليجية تشهد نمواً حقيقياً على كل الأصعدة الإنتاجية والفنية وبداية النمو تكمن في النصوص الجيدة وأحياناً المتميزة. كذلك الأغنية المصرية التي لا تزال تستقطب شعراء من أجيال مختلفة، مخضرمة وشابة، تحرص على الإتيان بأفكار جديدة باستمرار تلوّن الأغنية المصرية. أما الأغنية اللبنانية، فأغرب ما فيها، وأغرب ما تعانيه، هو ابتعاد شعراء اللهجة العامية المعروفون - «النجوم» عنها، أو ابتعاد الأغنية عنهم، في «جدلية» معقدة، تبدأ من «طبيعة» الإنتاج الغنائي اليوم وهي اختيار كل ملحن «شاعراً» على «مقاسه» واستبعاد كل شاعر آخر، فيخضع الإنتاج لثقافة الملحن التي غالباً ما تكون استهلاكية نظراً الى أن الألحان «المطلوبة» لا تحتمل نصوصاً «ثقيلة» لا يستسيغها هو (الملحن) أصلاً، ولا تنتهي عند «عنفوان» يبديه بعض الشعراء حيال ملحني ومغني هذه الأيام، مروراً طبعاً بالنظريات السائدة في شركات الإنتاج التي لا تعتبر كلام الأغاني مهماً، ولا أفكارها الجديدة وتراكيبها الشعرية العاطفية، بقدر أهمية اللحن، وتحديداً الألحان التي «يشعر المستمع اليها للمرة الأولى، كأنه سمعها من قبل» على ما يقول مدراء الإنتاج والملحنون ونجوم الغناء في آن!؟. لا شك في أن هناك «قلة قليلة جداً»، بل يمكن القول إن شاعرين لا أكثر ممن يزوّدون الملحنين نصوصاً تؤدى منذ سنوات، هما الأكثر نشاطاً. لكن حتى هذين الشاعرين أصيبا في المرحلة الأخيرة بجفاف شديد تجلّى في أغانٍ... «لا معنى لها» كما اعترف أحدهما في مجلس خاص، استجابة ل «طلب» هذا النجم أو تلك النجمة. وأما بقية شعراء الأغنية الذين نسمع كلماتهم بأصوات أهل الغناء. ففي الأغلب الأعم يسرقون فكرة من هنا أو هناك من الأغاني القديمة ويعيدون صياغتها بطريقة تضيّع «الأصل» كما اعترف أحد الشعراء الشباب لملحن يتعامل معه عندما اشتبه بكلام أغنية مطابق لكلام أغنية سابقة.. في الزمن، مضيفاً «شو رح نخترع البارود بأغانينا»!؟ لقد بلغ «غياب» شعراء الأغنية الجديين حداً جعل الملحن وسام الأمير مثلاً.. يكتب أغانيه. وما دام أول نصوصه «علوّاه» (أغنية ملحم زين) كان عملية «ناجحة»، فالمحاولات تكررت وستتكرر حتى ولو كانت الأغنية الأخيرة له «طلة قمر» عبارة عن ما لا يطاق من المفردات، والجُمل والتشابيه «الفظيعة» في وقت كان بإمكان الأمير مثلاً أن يبقى ملحناً ومغنياً له نكهته الخاصة في التلحين والغناء. وأن يتحاشى كتابة الأغاني التي قد تبدو أحياناً سهلة، لكنها في العمق أصعب بكثير من أن يستحلي تسلّقها «شعراء» مدعون، فكيف بملحنين ربما لا يدركون أنها فخ قد يورطهم في تدهور حتى في مستوى ألحانهم؟ «لا تسلم الجرة.. كل مرة».. يقول المثل الشعبي اللبناني: كلام يصلح لوسام الأمير. «نامت نواطير مصر عن ثعالبها فقد بشمن وما تفنى العناقيد»: كلام يصلح لشعراء الأغنية اللبنانية.