الملك وولي العهد يعزيان الرئيس الصيني في ضحايا الزلزال    «الجوازات»: إمكانية تجديد هوية مقيم وتمديد تأشيرة الخروج والعودة للمقيمين خارج السعودية    «الإحصاء»: الإنتاج المحلي من الخضراوات يوفر % 80.6 من الاحتياجات    السعودية تحافظ على صدارتها في حجم الاستثمار الجريء    نائب أمير تبوك يطلع على تقرير عن مؤشرات الأداء للخدمات الصحية بالمنطقة    النيابة العامة وهيئة التراث توقعان مذكرة تفاهم لتعزيز حماية التراث الوطني    أمير الرياض يستقبل سفير جمهورية مصر العربية لدى المملكة    العراق: حل شامل في سورية لمنع التدخلات الخارجية    استشهاد أربعة فلسطينيين في غارة إسرائيلية على مدرسة شمال قطاع غزة    نائب أمير منطقة حائل يتفقّد أعمال مشروع استكمال طريق "حائل - رفحاء" الجديد    تنفيذ حكم القتل تعزيرًا بأحد الجناة في المنطقة الشرقية    المنتدي الاقتصادي العالمي: 78 مليون فرصة عمل جديدة بحلول عام 2030    إطلاق عيادات التمكين لتعزيز الخدمات المقدمة لمستفيدي الضمان    مهرجان "حرفة حائل" يجذب السياح    الذكاء الاصطناعي ليس عبقرياً    حرس الحدود بجازان يقنذ مواطن تعرض لأزمة صحية في عرض البحر    زلزال بقوة 3ر5 درجات يضرب إثيوبيا    انخفاض اسعار الذهب    حظر نقل أو نشر تسجيلات كاميرات المراقبة الأمنية    5 أسباب للإصابة بالعصب السابع    هل تعود أحداث الحجْر والهلع من جديد.. بسبب فايروس صيني ؟    اعرف صحتك من لون لسانك    «سلمان للإغاثة».. يواصل دعمه للاجئين السوريين في عرسال    «البيئة»: منى تسجّل أعلى كمية أمطار ب 89 مليمتراً    مؤشرات الأسهم الأمريكية تغلق على تراجع    8 ملاعب تحتضن مباريات كأس آسيا 2027    الجنف.. عدو العمود الفقري    إقامة بطولة أساطير الخليج.. فبراير المقبل    فارياوا يحسم المرحلة الثالثة برالي داكار السعودية.. والراجحي يتراجع    العدالة والمنافسة على الصعود    اعتزلت الملاعب    سعود بن نايف يطلع على جهود «أصدقاء السعودية»    دعم القطاع الخاص للبحوث والدراسات العلمية    الشرع يفتخر بما فعلته السعودية لمستقبل سوريا    عشاق الزيتون    واشنطن: موسكو تمول طرفي حرب السودان    مجلس الوزراء: الموافقة على نظام المواد البترولية والبتروكيماوية وتعديل نظام المرور    أمر ملكي بتعيين 81 "مُلازم تحقيق" بالنيابة العامة    نجاح.. شهرة.. ثقافة    شاحن لتشغيل 5 أجهزة حاسوب في وقت واحد    عوائق العلاقات الطبيعية بين لبنان وسورية    جازان تستضيف النسخة الأولى من معرض الكتاب 2025    جائزة الملك فيصل تعلن الفائزين للعام الحالي    أساس الألقاب في المجتمع السعودي    احسبها صح .. بعيداً عن الفوضى    محتوى الإعلام الدولي.. ومؤتمر سوق العمل !    الأفلام والدخل الوطني    هيئة الأوقاف تعرّف بخدماتها في تبوك    أمير نجران يكرّم قائد الأفواج الأمنية بالمنطقة سابقاً    الاتحاد يُقصي الهلال بركلات الترجيح ويتأهل لنصف نهائي كأس الملك    في انطلاق كأس السوبر الإسباني بالجوهرة.. برشلونة في اختبار أتلتيك بيلباو    خيسوس مدرب الهلال : الفريق الأفضل لم يفز الليلة والنتيجة لم تعكس واقع المباراة    «تخصصي المدينة المنورة» يحصل على «الآيزو» في إدارة المرافق    نائب أمير تبوك يطلع على نسب الإنجاز في المشروعات التي تنفذها أمانة المنطقة    سفير فلسطين: شكراً حكومة المملكة لتقديمها خدمات لجميع مسلمي العالم    بلسان الجمل    العداوة الداعمة    حماية البذرة..!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ها أنت امرأة جديدة كل يوم
نشر في الحياة يوم 28 - 04 - 2015

حين بلغتُ العقد الثالث صرتُ أكثر انفتاحاً على العالم، كما صرت أكثر قرباً من ملامح وجهي، التي أخذت تنعطف بتؤدة على طريق جديد. قررت أن أشارك الزمن في مساراته، وأن أشتبك معه في لعبة تغيير الملامح.
الأنف. مسار مجاور لا علاقة له بالتجاعيد الخفيفة التي يتسلى الزمن برسمها على وجهي، لكن موقعها في الصدارة فارق في اللعبة. وبإيمان بأن العالم يتجاوب معك، حين تنفتح عليه، وتسرّ له برغباتك الدفينة، نظرت طويلًا إلى المرآة، وسألتها، كما تفعل الأميرات في الأساطير، ماذا لو صار لي أنف جديد أكثر شموخاً. من داخل الأسطورة نفسها، أجابتني مستعيرةً صوت أمّي: «تعالي نلعب معاً».
أسلمت نفسي ليد الطبيب، لكي يصطحبني إلى عالم الغياب ساعات، لأمُر عبر الزمن، وأخرجَ من بابه الخلفي، بقطعة معدنية على أنفي، لا تنم عن شيء سوى بداية المغامرة. أنف طويل متضخم، يختبئ تحت ضمادات ثقيلة ترفعه إلى أعلى، وتدفع به إلى الأمام، لا يظهر منه بالكاد غير جناحين وجزء صغير من الطرف.
نوبات من الضحك القلق تنتاب الجميع في اليوم الأول، لاسيما جدتي التي لاتزال تندهش من أن ذلك الأنف، الذي طالما داعبَتْه بحنو سوف يتغير، ربما يتطلب الأمر بعض الوقت لكي تجرب مداعبته من جديد في مواضع مختلفة. أبعاد جديدة تستدعي تعاملاً مغايراً مع العالم، أرفع يدي لأهش الذبابة، فيصطدم إصبعي بشيء صلب لم يكن موجوداً من قبل في هذه المساحة، وعندما أشعر بالعطش فأقرّب الكوبَ من فمي، أسمع نقر الزجاج على القطعة المعدنية، ثم أشعر بوخز خفيف في أرنبة الأنف المدببة المطلة من تحتها. لون رمادي مائل إلى الزرقة يزحف على جانبي الأنف، يلتف على شكل شريط منتظم حول العينين. أغمز للمرآة، في إشارة إلى السر الذي أذاعته القطعة المعدنية، وبدأ اللون الأزرق في تسجيل تفاصيله، ثم ألتقط معها صورة للذكرى.
يمرّ اليوم الثاني مملاً، أشعر بين الحين والآخر بدوارٍ خفيف، صرت أتنفس بصعوبة، ثم أفقد تدريجياً حاستي الشم والتذوق معاً. لا طعم لأي شيء اليوم. في المساء أخلد إلى سريري، ليس لأنني أشعر بالنعاس، وإنما فقط لكي ينقضي هذا اليوم الباهت أخيراً. في الرابعة صباحاً أستيقظ بشعورٍ غريب، بجفاف في الحلق، ووخزٍ في فمي، كأنما حقل من الأشواك قد زُرع بداخله. أتمشى في البيت قليلاً، ألقي نظرة على أمي في سريرها، كأنني طفلة تتوق إلى شربة ماء في قلب الليل. عيناي جاحظتان، كأن منفاخاً مثبتاً أعلى رأسي، راح يدفع بالهواء الساخن بين جفني، فينتفخان وينتفخان، ويصيران أكثر حمرة ثم أكثر زرقة، ثم يمتزج الأحمر بالأزرق، فتتلوّن عيناي بالأرجواني الداكن الذي تفزع له حتى المرآة، ليصير اليوم الثالث هو الأسوأ على الإطلاق. يوم غامض لا ينبئ بأي شيء، ولا حتى بالألم. فالحق أنني لم أتألم دقيقةً واحدة، لكن هواجس العالم كله تحضر، تحمل آلافَ الأسئلة بلا إجابة. مزيجٌ من الضجر، والهلع، والتساؤل، ولذة الوخز الخفيف في كل أنحاء الوجه تستحوذ على هذا اليوم. هو يوم اللاطمأنينة بامتياز.
في الأيام التالية، بعد استكانة الورم والانتفاخات الضاربة في جوانب الوجه، لا يبقى لك سوى الانتظار. شعور بالتآلف ينشأ مع العالم المحيط، ومع الآخرين من حولك. لا تعود الخادمة تفزع حين ترى وجهك مقيداً بالضمادات، متلوناً بدرجات البنفسجي، بل تصير، بينما لا تزال متحيرة من سبب كل هذا، تدعو لك: «ربنا يقوّمك بالسلامة».
«اليوم السابع»... يُذكِّر بأسطورة الخلق، إلا أنه يتحول في هذه الحالة إلى يوم فارق في العمر، يعود بذاكرتك إلى العقد الأول، حيث تبدأ أسنانك اللبنية تتلخلخ من مكانها، فتظل تنظر إليها متوجساً، حائراً بين رغبتك في أن تنخلع أخيراً، وخوفك من الفراغ الذي سوف تتركه وراءها، تداعبها بلسانك بحذر، وتتحسس الفجوة الكائنة تحت حوافها المدببة، التي لم يبق سوى حرف واحد منها مثبتاً في اللثة، في انتظار لحظة سقوطها، بوصفها لحظة انتصار. إنك لا تدرك أن ما يتبعها هو صدمة في البداية، ثم مرحلة تالية من الانتظار الطويل، حتى يتغير شكلك إلى الأبد. هكذا تبدأ القطعة المعدنية على الأنف تتلخلخ هي الأخرى، فتنتابك حيرة مشابهة، تظل تتلمس طرفها، وتدور بأصابعك في المنطقة المحيطة، لتتأكد من أن كل شيء لايزال في مكانه، تضغطها بحذر باتجاه الأنف خوفَ أن تنخلع، بينما ينفد صبرك في انتظار سقوطها، لترى ما الذي تخبئه لك.
طق! سقطت؟! المرآة!
المرآة: «من أنت؟!»، شخص غريب يقف في مقابلتك داخل إطار المرآة. المرآة نفسها لا تعود تتعرف عليك. الأسرار كلها طارت في الهواء، إذ إن المرآة لا تفصح عنها إلا لصاحبها. أما أنت... من أنت؟!
أجهش بالبكاء، متوسلة إيّاها أن تستمع إلى صوتي، لربما تتعرف عليّ من جديد: «أليس هو الصوت نفسه الذي أحَبَّ أن يلعب معكِ؟ أين إذن صوت أمي؟».
أتصل بأمي لكي أسمع صوتها، لابد أنه لا شيء يُطَمئن في تلك اللحظة سواه. لا أستطيع الكلام. أنفي يتضخم أكثر فأكثر، والدموع تزيد من تورّم العينين، ولا شيء ينفع! انتهى الأمر. لقد بدأت اللعبة وعليّ أن أخوض المغامرة حتى النهاية. ظننت أن الإجابة الصحيحة هي المعرفة، لكن المعرفة نسبية، فالقراءة، ومعرفة التفاصيل مسألة مهمة حقاً، لكنها لا تصف المشاعر والهواجس، ولا تعادلهما في شيء. ربما تكون المعرفة الأنفع لدى شخص مرَّ بالتجربة، أو بالأحرى شعر بها. في تلك اللحظة العاطفية جداً، لابد من التواصل مع شخص يعرف كيف ستصير الأمور اليوم، وغداً، وفي الشهور التالية. لا دخل للعقل بهذا الشأن. صديقتي التي غيرت أنفها قبلي، تقول إنها مجرد بداية للعبة المسلية مع الزمن. وأنا طفلة أحب اللعب، لن أخسر هذه المرة.
سأمسح دموعي وأستلقي في الماء الدافئ، أقضي ساعة كاملة، لا أنظر للمرآة، ولا أتحدث لأحد، أتبلد تماماً. تتوقف دموعي، ويبدو لي أن العالم يتوقف معها، إلا أن الحواس تستيقظ رويداً رويداً. أشم فجأة رائحة كريهة! إنها رائحة القطعة المعدنية والضمادات، ورائحة الجلد المضموم تحتها لمدة أسبوع كامل! لكنني، رغم كراهة الرائحة، أشعر بنشوة ما، ليس لشيء سوى لاستعادة علاقتي بالعالم من خلال الرائحة. فالمهم هو العودة إلى مضمار اللعب.
أخرج من الحمام، متدثرة بالمنشفة الكبيرة، بينما تتلاشى الرائحة الكريهة أمام عبير الصابون، والكريمات المعطرة. أواجه المرآة بشجاعة، وأخرج مساحيق التجميل من درجي، لأخفي آثار اللون الأزرق من على وجهي. أعتقد أن التغيير قد طاول فمي كذلك، تراجعت شفتي العليا إلى الوراء قليلاً، ولكن لا بأس. أستطيع أن أرسمها من جديد كيفما شئت بأحمر الشفاه. أملأ الفراغات الصغيرة بين شعر الحاجبين بالبني الداكن، وأضع طبقات كثيفة من مبيّض الهالات السوداء حول العينين، أتسلّى بترك بعض آثار البنفسجي على الجفنين، وأضيف بعضَ الظلال البسيطة ليكتمل المنظر. تلمع عيناي أكثر من أي يوم مضى. أعود أنظر للمرآة، أشعر بصدى صوتها يتردد في روحي: «لم يكن البنفسجي يوماً من ألوان ظلال العين المفضلة لديك». «بلى، لكنه اليوم يناسبني تماماً».
تمر الأيام، فيتراجع أنفي إلى الوراء، ينكمش حجمه، وتتلاشى الانتفاخات، فتصبح اللعبة أكثر إثارة. تتسلى المرآة الكبيرة أمام سريري بالانخراط معي في اللعبة من جديد، لا تكاد تتحمل انتظار أن أستيقظ كل صباح، لأنظر إليها، فيكون شكل أنفي قد اختلف عن اليوم السابق. يعود فمي تدريجياً إلى طبيعته، تتسلل شفتاي إلى مكانهما مرة أخرى. ترن في أذني جملة شهيرة من أحد الإعلانات القديمة لصبغات الشعر: «وها أنت امرأة جديدة كل يوم».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.