كان الأردن الدولة العربية الأخيرة التي اعترفت باستقلال كوسوفو خلال الصيف الماضي، وأصبحت بذلك الدولة ال 62 في العالم التي اعترفت بأحدث دولة أوروبية، جاءت بعدها نيوزيلاندا لتصبح الدولة ال 63 ولتتوقف معها موجة الاعترافات الجديدة بكوسوفو مع اقتراب موعد بداية أعمال محكمة العدل الدولية النظر في طلب صربيا في مدى انسجام استقلال كوسوفو مع القانون الدولي. ولكن قلة من المراقبين تنبهت الى أهمية الاعترافين الأخيرين (من الأردن ونيوزيلاندا) وتأثيرهما في الرأي الذي ستعلنه محكمة العدل الدولية في اختتام استماعها الى آراء الدول التي رغبت في ذلك (28 دولة إضافة الى صربيا وكوسوفو)، لأنهما ممثلتان في هيئة قضاة المحكمة ال15. مع هذا التطور أصبح هناك ثمانية قضاة من الدول التي اعترفت بكوسوفو (الولاياتالمتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا واليابان والأردن وسيراليون ونيوزلاندا) وسبع قضاة من الدول التي تعارض أو لم تعترف بعد باستقلال كوسوفو (روسيا والصين وسلوفاكيا والمغرب والبرازيل والصومال). وإذا أضفنا الى ذلك الدول التي عبرت عن رغبتها بالإدلاء برأيها نجد أيضاً أن الفرق يميل لمصلحة كوسوفو، فهناك 15 دولة ستدلي برأيها لمصلحة استقلال كوسوفو (ألبانيا والسعودية والأردن والبحرين وبوروندي والنمسا وبلغاريا وكرواتيا والدنمارك وفنلندا وألمانيا وفرنسا وهولندا وبريطانيا والولاياتالمتحدة)، في حين هناك 13 دولة ستدلي برأيها ضد استقلال كوسوفو (الأرجنتين وأذربيجان وبيلاروسيا وبوليفيا والبرازيل والصين وقبرص ولاوس ورومانيا وروسيا واسبانيا وفنزويلا وفيتنام). وقد خصص اليوم الأول (الثلثاء 1 كانون الأول/ ديسمبر 2009) بكامله للاستماع الى صربيا وكوسوفو فقط، حيث منحت كل دولة ثلاث ساعات بينما حدد الوقت للدول الأخرى ب45 دقيقة. وكانت كل من صربيا وكوسوفو قد جندت فرق عمل ومستشارين معروفين في القانون الدولي، ولذلك جاءت مداخلة كل واحدة متبحرة في القانون الدولي ولكن بنتيجة معاكسة: إذ أن ممثل كوسوفو انتهى الى أن استقلال كوسوفو ينسجم مع القانون الدولي بينما انتهى ممثل صربيا الى أن استقلال كوسوفو يتعارض مع القانون الدولي. ومع أن ما طرح في اليوم الأول لم يترك مجالاً للتبحر أكثر في القانون الدولي إلا أن مداخلات الدول ال 28 التي عبرت عن رغبتها في الإدلاء برأيها انقسمت بدورها بين من يؤكد أن استقلال كوسوفو ينسجم مع القانون الدولي ومن يؤكد أن هذا الاستقلال يتعارض مع القانون الدولي. وشمل هذا التناقض أيضا فهم وتفسير قرار مجلس الأمن 1244 بتاريخ 10/6/ 1999 الذي انتهت بموجبه الحرب التي شنتها دول الناتو ضد صربيا بسبب كوسوفو، حيث رأى البعض أن استقلال كوسوفو لا يتناقض مع القرار 1244 بينما رأى البعض الآخر انه يتناقض مع استقلال كوسوفو. وقد بدا هذا الانقسام واضحاً منذ اليوم الثاني (الأربعاء 2/12/2009) الذي بدأ فيه الاستماع الى آراء ألبانيا وألمانيا والسعودية والأرجنتين. ففي حين ذهب ممثل الأرجنتين الى أن «استقلال كوسوفو يتعارض مع القانون الدولي» انتهى ممثل ألمانيا الى أن «استقلال كوسوفو ينسجم مع القانون الدولي». ومع ذلك فقد لوحظ أن ممثل السعودية (السفير عبدالله الشغرد ) قد ركز على أن السعودية احترمت في اعترافها حق تقرير المصير وتمنى على محكمة العدل الدولية أن تأخذ في الاعتبار أن استقلال كوسوفو قد ساهم في استقرار البلقان، وذلك على عكس ما كانت تطرحه صربيا في معارضتها لهذا الاستقلال. أما ممثل ألبانيا فقد ذهب في اتجاه آخر بالقول إن استقلال كوسوفو قد اعترفت به حتى الآن 63 دولة و «أن هذه الاعترافات لا يمكن التشكيك فيها من جانب القانون الدولي» بل «يمكن التشكيك في حق محكمة العدل الدولية النظر في استقلال كوسوفو». وفي الأيام اللاحقة دار جدل حول الانفصال أو الاستقلال في القانون الدولي، إذ أن ممثلي بعض الدول قصرته على الدول المستعمرة بينما رأى ممثلو دول أخرى أن القانون الدولي لا ينظر ولا يبت في مثل هذه الحالات، في حين أن «وحدة وسيادة الدولة» هو أمر متعارف عليه في العلاقات الثنائية بين الدول. وكان من الملاحظ أن الاصطفاف بين الدول بمواقفها المسبقة شمل الدول المجاورة التي انضمت أخيراً الى الاتحاد الأوروبي: بلغاريا ورومانيا. فقد أيدت بلغاريا استقلال كوسوفو ورأت انه لا يتعارض مع القانون الدولي، بينما عارضت رومانيا (التي لديها مشكلة ترانسلفانيا ذات الغالبية المجرية) استقلال كوسوفو لأنه «يتعارض مع القانون الدولي». ومع هذا الجدل حول انسجام أو تعارض استقلال كوسوفو مع القانون الدولي، حيث بدا أن كل طرف يفهم القانون الدولي بحسب مصلحته، بدأت تظهر مواقف متسرعة تسبق إعلان المحكمة عن رأيها الذي يتوقع أن يتم في ربيع 2010. فخلال انعقاد جلسات المحكمة قام رئيس سلوفاكيا بزيارة الى بلغراد وقال أن سلوفاكيا لن تعترف باستقلال كوسوفو حتى لو كان رأي محكمة العدل الدولية مع هذا الاستقلال. وفي المقابل فقد صرح السفير الكوسوفي في لندن محمد حميدي أن كوسوفو لن يتوقف وجودها كدولة حتى لو كان قرار محكمة العدل الدولية ضد استقلال كوسوفو. وفي الواقع أن تكوين هيئة قضاة المحكمة ومواقف الدول التي عبرت عن رغبتها بالإدلاء برأيها جعل الجانب الصربي يدرك ويعترف حتى قبل بداية جلسات المحكمة أن رأي المحكمة (الذي هو في الأصل استشاري وليس ملزماً لأحد) لن يكون لمصلحة صربيا بل سيكون متوازناً يأخذ في الاعتبار ما يطرح من آراء ويرضي صربيا وكوسوفو معاً. وهكذا نشرت الصحيفة الصربية المعروفة «داناس» (عدد 28/11/2009) لقاء مع الخبير الصربي في القانون الدولي رادوسلاف ستويانوفيتش أوضح فيه أن رأي المحكمة سيكون متوازناً وليس حاسماً لطرف. وبعبارة أخرى فقد أوضح ستويانوفيتش أن رأي المحكمة سيكون في قسمه الأول لمصلحة صربيا بالقول إن إعلان الاستقلال الكوسوفي يتناقض من حيث الشكل مع القانون الدولي، ولكنه سيكون في القسم الثاني لمصلحة كوسوفو بالقول إن هذا الاستقلال جاء استناداً الى حق تقرير المصير. ويضيف ستويانوفيتش: «أن مثل هذا الرأي لن يؤدي بالدول التي اعترفت بالاستقلال الكوسوفي الى سحب اعترافها، بل أن المتوقع زيادة كبيرة في عدد الدول التي تنتظر إعلان المحكمة عن رأيها». والأهم هنا، بحسب ستويانوفيتش، أن مثل هذا «الرأي المتوازن» للمحكمة من شأنه أن يؤدي الى فتح مفاوضات جديدة بين بلغراد وبريشتينا حول بعض المسائل المرتبطة بإعلان الاستقلال الكوسوفي. فهناك على الأرض مشاكل كثيرة يعاني منها الشعبان الصربي والكوسوفي (عودة المهجرين، المفقودين الخ) التي لا بد من أن تحل قبل انضمام صربيا وكوسوفو الى الاتحاد الأوروبي خلال السنوات المقبلة. وبغض النظر عن ذلك فان ما دار في جلسات المحكمة من آراء حول استقلال كوسوفو في نظر القانون الدولي ستكون له قيمة كبيرة في المستقبل لحالات أخرى كفلسطين وغيرها، وهو سيفتح الباب لمزيد من الاصطفاف بين الدول التي ستسارع الى الاعتراف باستقلال كوسوفو وبين الدول التي ستصر على التحفظ أو الاعتراض على استقلال كوسوفو لاعتبارات خاصة بها.