هل اندرجت الأصولية في السياق الفكري والسياسي والاجتماعي العربي على أساس أنها حل مرغوب ومطلوب للأزمة الحضارية التي يعيشها العالم العربي؟، وهل البيئة العربية، اجتماعياً وسياسياً، ببنيانها الإيديولوجي والمعرفي والسلوكي، قادرة، أو حتى راغبة، في إدراج الفكر الأصولي كرافد فكري وسياسي للمشروع العربي، الذي ما انفك يئن تحت ضربات سؤال «لماذا تقدموا وتأخرنا؟». الإجابة عن هذه الأسئلة لا بد أن تعيدنا إلى مراحل التأسيس الكياني الأولى، باعتبارها المداميك التي تأسست عليها الاتجاهات الفكرية والسياسية العربية، فضلاً عن تشكيل الواقع الاجتماعي العربي. وفي هذا الإطار يقول محمد أركون في كتابه «الإسلام وأوروبا» إن المجتمعات العربية عانت من فوضى اجتماعية وسياسية ومعنوية منذ الاستقلال، فقد انتقلت من زراعية ورعوية إلى عمران متوحش اتسم بالبناء العشوائي والفوضى، ترافقه أنظمة سياسية طائشة، وكانت عمليات التوحيد في ظل نظام الحزب الواحد بعد الاستقلال قد قطعت الإسلام عن ينابيعه الفكرية الأولى ليستخدم في عملية تعبئة ومواجهة مع الآخر، وأبعد عن آفاقه الروحية، فكانت الأصولية الحديثة التي تتفاعل مع حالة الفشل الذريع اقتصادياً واجتماعياً التي وقعت فيها أنظمة الحكم، وانفجر العنف. بالإضافة لذلك، تعرضت الشعوب العربية لأشكال عدة من الإقصاء والإنكار، يرى البعض أنها شكلت الحاضنة الطبيعية للأصولية التي ستخرج للوجود كمولود متوحش لمظالم العالم: انسداد العمل السياسي والتضييق على النخب الجديدة من طرف حكومات مدعومة أميركياً. الصراع العربي الإسرائيلي ومآلاته في حالتي الحرب والمفاوضات. التحولات العالمية عقب سقوط المعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفياتي، وانفراد الولاياتالمتحدة بالهيمنة والقرار. وهنا يلاحظ أنه في الوقت الذي سعت فيه واشنطن إلى عولمة الخيار الأمني في مواجهة إسلاميين، رد هؤلاء، خاصة تنظيم القاعدة، بعولمة الجهاد والمقاومة الإسلامية. وفي هذا الصدد لايمكن إغفال طبيعة الأنماط السياسية والثقافية التي مورست على البيئة الاجتماعية العربية، وكانت كلها تهدف إما إلى تكريس الواقع السياسي الساعي إلى تأبيد «النخب القائمة» على نمط «نهاية التاريخ» الفوكويامية، أو إعادة صوغ هذا الواقع ليتناسب مع متطلبات الإمبريالية الكونية المتجددة. وعليه فإن: نمط التسلط الذي عرفته المنطقة، وبالشكل الذي افتقر إلى أي مبرر سياسي أو أخلاقي، تولدت عنه استجابة معينة لدى الشعوب العربية، أو قطاعات منها. نمط التغرب الذي تم التقدم به بشكل مستفز للنوستالوجيا القومية وللموروث ألقيمي والثقافي، كان له الأثر الأكبر في توضيب شكل دفاعي نزق ومتسرع. نمط العلمانية الديكتاتورية المدعية للحرية والانفتاح والديموقراطية الليبرالية، والمتحالفة في نفس الآن مع الجيش وأجهزة الأمن والنخب العلمانية الحاكمة، لإحباط التحولات الديموقراطية، ما دفع الشعوب العربية إلى النأي بنفسها وعدم التورط في شرعنة هذا النمط السياسي المنحرف. وحتى في إطار الإسلام السياسي في العالم العربي، كانت ثمة ثغرات كثيرة ونواقص، كان لها ردات فعل سلبية في البيئة العربية. فقد أدى فشل التيارات والأحزاب الإسلامية التقليدية في إعادة تشكيل قاعدة الوطن (المجتمع)، إي تحقيق دولة إسلامية واسلمة المجتمع في الفضاء الوطني، بالتزامن مع تمدد ظاهرة العولمة وانتشارها بمختلف أبعادها الاقتصادية والثقافية والسياسية، إلى عولمة الاحتجاج الإسلامي كرد فعل على فشل المشروع الوطني الإسلامي من جهة، والتفرد السياسي العالمي من جهة أخرى، ومن هنا فإن البعض يرى ان التطرف الإسلامي يجر وراءه قليلاً من التشدد الديني والظلامية، بقدر ما يجر كثيراً من الدفاع، غير المشروع أحياناً، عن المصالح السياسية والاقتصادية المغلفة بتعبيرات الهوية والانتماء الديني. لا شك أن من شأن من يرصد تمظهرات الأصولية الدينية في العالم العربي، سيكتشف أنها كانت دائماً وليدة ردات فعل على بعض الأحداث والوقائع، وهذا في الحقيقية يؤشر إلى قضية مهمة، ليس فقط عدم امتلاك هذه الأصولية لمشروع حضاري، أو حتى لمشروع عملي وواقعي للأزمات التي تعيشها الشعوب العربية، وإنما أيضاً، عدم اندراج الحالة الأصولية في الواقع العربي، وبقاؤها في إطار ردات الفعل العابرة والمؤقتة، والدليل أنه بالرغم من محاولات تكبير حجر التنظيمات الأصولية في العالم العربي، فإن أعداد المنتسبين إليها لا يتجاوز حجم الطوابير ليوم واحد، في بلد عربي واحد، أمام السفارات الغربية، الطامحة في الذهاب إلى الغرب للتمتع بنمط الحياة الغربية. ولا شك أن هذا يؤشر أيضاً إلى النظرة المتساوية للشعوب العربية لأغلب التكوينات السياسية، سواء تلك التي في سلطة أو خارجها، باعتبارها نتاج سياق سياسي عربي منحرف ومؤقت وزائل، وتبعاً لذلك لا شعبي، وأن الشعوب العربية بالرغم من كل ما يقال ويكال في حقها، ما زالت حتى اللحظة لا تجد في كل التكوينات السياسية السائدة ولا في مشاريعها ما يدفعها إلى منحها الشرعية لقيادتها، وفي انتظار ذلك المشروع، فهي ترفض التنازل عن هويتها وحريتها، ولكنها بنفس القدر من الرفض، ترفض تدبيج هوية على مقياس بعض المتطرفين. وإن كان تاريخ النخب السياسية العربية قد انتهى في مستنقعات الديكتاتورية والتطرف، فأنه في الجانب الشعبي لا يزال ثمة بقية من أمل. * كاتب فلسطيني.