أثار الكشف عن منشأةٍ نووية جديدة في إيران - كما هو معروف - حملةً من التصريحات العالمية المتضاربة حولها، وحول كل الملف النووي الإيراني. والمواقف الإيرانية والدولية التقليدية معروفة، فإيران ترى أن من حقها بصفتها دولة عضواً في الوكالة الدولية للطاقة الذرية امتلاك المفاعلات والقدرات النووية لإنتاج الطاقة النووية لأغراض سلمية وغير عسكرية، وهذا ما تكفله كل القوانين الدولية والإقليمية ذات الصلة، بما فيها قرارات مؤتمرات القمة الإسلامية لمنظمة المؤتمر الإسلامي والتي عقدت في مكةالمكرمة أخيراً، بينما يرى الغرب أن المشروع النووي الإيراني ليس مشروعاً لإنتاج الطاقة النووية السلمية فقط، ويعرض بدلاً من تخصيب اليورانيوم في المفاعلات النووية الإيرانية، إنجاز ذلك خارج إيران وبحسب الكميات التي يتم الاتفاق عليها، أو تأمينها بالطاقة اللازمة من دون الدخول في بناء مفاعلات نووية في إيران، أو وضع المفاعلات النووية الإيرانية تحت مراقبة دولية دائمة ومشددة، وفرض شروط تعاون كامل من الحكومة الإيرانية مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، قد تصل إلى شروط انصياع وإذعان للدول الغربية وإسرائيل من ورائها والتي ترى في المشروع النووي الإيراني تهديداً لوجودها. وقبيل توجه رئيس الوزراء التركي بزيارة رسمية إلى إيران وقبل تولي تركيا مواقع متقدمة في الرئاسة الدورية الغربية، الأمنية والعسكرية، انتقد رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان المواقف الغربية من المشروع النووي الإيراني، واعتبر أن الموقف الغربي غير عادل مع المشروع النووي الإيراني إذا قورن بالموقف من المشروع النووي الإسرائيلي. وتركز نقد أردوغان على تركيز الغرب على انتقاد البرنامج النووي الإيراني وغض الطرف عن إسرائيل ومشروعها النووي واستعمالها أسلحة الدمار الشامل في ظل صمت دولي غير مبرر. يرى أردوغان الفارق بين المشروع النووي الإيراني والإسرائيلي من جانبين: الأول أن إيران عضو في الوكالة الدولية للطاقة الذرية، بينما إسرائيل ليست عضواً، والثاني أن الغرب يتهم إيران بالسعي لامتلاك أسلحة دمار شامل، بينما إسرائيل استعملت هذه الأسلحة في حربها الأخيرة في غزة، فهناك طرف متهم وآخر ثابتة عليه التهمة، فلماذا يتم التركيز على المتهم، ويُتجاهل من ثبت عليه استعمال أسلحة دمار شامل؟ ويقول أردوغان عن عدم ارتياحه لهذه المواقف الغربية: «إنني غير مرتاح لطريقة الغرب في تناول هذه القضية، لماذا لا نكون أكثر عدلاً في تناول هذه القضية؟». ولا شك في أن كل منصف يجد حجة قوية في الموقف التركي، فإذا كانت إيران تمتلك شبهة أسلحة دمار شامل، فإن إسرائيل استعملت هذه الأسلحة في حربها الأخيرة في غزة، علماً أن بعض التقارير الأميركية المتخصصة التي صدرت أخيراً قالت إن إيران لن تستطيع صناعة قنبلة ذرية قبل أربع سنوات من الآن، فيما لو واصلت عمليات تطوير تخصيب اليورانيوم بحسب إمكاناتها العلمية والتكنولوجية الحالية. وهناك وجهات نظر أميركية أمنية وعسكرية ترى أن على السياسة الأميركية أن تفكر في كيفية التعامل مع إيران وهي تمتلك أسلحة دمار شامل، وعدم قصر جهودها على منع إيران من امتلاكها، لأن هذه الجهود لن تنجح، إلا في حال إحباط هذا المشروع بعمل عسكري أميركي كبير، وهو ما لا يفضله البنتاغون ولا القادة المعتدلون في البيت الأبيض، بل إن تصريحات الرئيس الأميركي باراك أوباما صريحة بعدم معارضة أميركا امتلاك إيران قدرات نووية سلمية، شرط وضع المفاعلات النووية الإيرانية تحت تفتيش كامل من جانب الوكالة الدولية للطاقة النووية. ويرى بعضهم أن الموقف الأوروبي هو الذي يؤزم الموقف الدولي، فرئيس الوزراء البريطاني غوردون براون يرى أن المشروع النووي الإيراني أكبر خطر يهدد المجتمع الدولي، ويقاربه بهذا الرأي الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي والمستشارة الألمانية أنغيلا ميركل، بينما يدعو الموقف الروسي الغرب الى ضبط النفس مع إيران والحوار معها، وعدم فرض حصار عليها او القيام بعمل عسكري يزيد المنطقة توتراً ودماراً. ويشاركه في هذا الرأي الموقف الصيني، الذي يدعو صراحة إلى إنهاء النظام الدولي الذي يقوم على هيمنة قطب دولي واحد، أو هيمنة دولة كبرى على العالم أجمع. وفي خضم هذا الصخب الدولي الكبير، تعمل إسرائيل على تأجيج الموقف الدولي وتأليبه على إيران، وتتحفز لتوفير أسباب قيامها بعمل عسكري ضدها، لكن الموقف غير الواضح هو الموقف العربي، لا في المواقف الفردية الصريحة والمعلنة، ولا في إجماعه على موقف واحد، ليس فقط على المشروع النووي الإيراني، وإنما أيضاً على ما يمكن وصفه بالمشروع الإيراني بالتدخل في الشؤون العربية، سواء بدعم مشاريع المعارضة السياسية السلمية السرية والعلنية، أو بدعم مشاريع المعارضة المقاومة للاحتلال الخارجي، أو المؤيدة له، بما يخل بالتوازن السياسي في تلك الدول، كما هو الحال في العراق ولبنان وفلسطين واليمن، بل وحتى في دعم مشاريع المعارضة السياسية والعسكرية، ولو من باب التهم والشكوك. وإزاء هذه التهم العربية والإيرانية المتبادلة أو الشكوك لبعض القوى العربية والإيرانية من الآخر، فإن محاور ثلاثة ينبغي السعي إلى جعلها في مثل وضوح مواقف إسرائيل وأوروبا وأميركا والصين وغيرها. أول هذه المحاور هو المحور الإيراني، الذي ينبغي له أن يعتبر الموقف العربي مسانداً له وليس عدواً، ومؤيداً لحقوقه في امتلاك قدرات نووية سلمية وليس معارضاً، مما يستدعي من الثورة الإيرانية الإسلامية أن تعلن أن ثورتها ليست ضد العرب إطلاقاً، مهما تعددت وجهات نظرهم المذهبية أو الفكرية أو الأيديولوجية أو السياسية، وطالما أن الدول العربية قاطبة ومنفردة لا تسعى إلى زعزعة الاستقرار في الجمهورية الإيرانية الإسلامية، ولا إحداث فتن داخلية بين عناصر المجتمع الإيراني المتنوع والمتعدد الأصول والمنابت العرقية والمذهبية والسياسية. إن على الجمهورية الإيرانية الإسلامية أن تكسب الشعوب والأنظمة العربية إلى جانب قضاياها العادلة بما فيها الملف النووي، شريطة أن تعمل جاهدة على تبديد الشكوك العربية وبالأخص في دول الخليج والجوار العربي، وأن تأخذ في الاعتبار أن قواسم التعاون والشراكة أكثر فائدة للثورة من نقاط التباعد والافتراق، كما أن على الموقف العربي وغير المسموع حتى الآن، وهو الأكثر قرباً من إيران من حيث الجغرافيا، أن يعلن صراحة عن مخاوفه وشكوكه من المشاريع الإيرانية التي يجد أنها تهدد أمنه أو مجتمعه، فإيران لا تحتل أراضي أوروبية ولا أميركية ولا صينية ولكنها تحتل أراضي عربية، ولو من وجهة نظر عربية على الأقل، وهذا يتطلب الجدية في حل هذا الخلاف بما يخدم مصالح الطرفين أولاً، ولا يجند أحدهما ضد الآخر في أحلاف دولية ولا إقليمية. وهنا ينبغي على الدور التركي الذي يحاول أن يكون منصفاً حيال موقف الغرب من إيران، أن يكون منصفاً في الوساطة بين إيران والعرب، فهو مطالب بأن يأخذ في الاعتبار المواقف العربية من كل القضايا التي تهم أمن الخليج، والدور والمكانة التي تسعى إيران إلى شغلها، والوظيفة الأمنية التي تسعى للقيام بها، سواء بتنسيق دولي، أم إقليمي، بما لا يؤثر في تأجيج الصراعات الأيديولوجية والمذهبية والحروب العسكرية القاتلة والتي خاضها الطرفان من غير فائدة في المنطقة في السنوات والعقود القليلة الماضية، أي أن الموقف التركي مطالب بأن يلعب دور الوسيط بين العرب وإيران أكثر مما يسعى لإحداث التقارب بين الغرب وإيران، بما في ذلك طمأنة العرب قبل الغرب الى سلامة نيات المشروع النووي الإيراني تجاه الدول العربية، وعدم التدخل في الشؤون العربية الداخلية مهما كانت الأسباب، فمحاور السياسة الداخلية العربية هي شأن عربي محض، بغض النظر عن الانتماءات المذهبية لقوى المعارضة العربية، كما لا ينبغي استغلال ظروف الاحتلال في بعض الدول العربية للتدخل في هذه الدول ما لم يتم ذلك مع الدول نفسها، بصفتها صاحبة السيادة في إجراء معاهدات الدفاع أو التعاون العسكري المشترك. إن أمام زيارة رئيس الوزراء التركي لإيران مهمات كبيرة، ومسؤوليات عظيمة، في مقدمها مصالح الشعوب الإسلامية، وبالأخص في محاور قلبه الثلاثة: المحور العربي والمحور الإيراني والمحور التركي، ورئيس الوزراء التركي خير من يقوم بهذا الدور في التقارب العربي - الإيراني في حل الكثير من القضايا العالقة بينهما في أكثر من قطر عربي، وإلا فإن الآخر لا سمح الله سيتجه في أحلاف خارجية لا تخدم المصالح العربية ولا الإيرانية ولا التركية، أي لن تكون في مصلحة المسلمين إطلاقاً. إن المأمول من الناطق باسم الجروح الإسلامية، ومن وقف في وجه أعداء الأمة الإسلامية في الدفاع عن قضاياها العادلة في غزة وغيرها، أن يصبح صاحب السلام الإسلامي وصانعه. * كاتب وباحث تركي