في مدينة عدن تبدأ الحياة ولا تزدهر إلا بها؛ لأنها المدينة الموعودة للصالحين الذين لا تصمت أفواهم بالدعاء للناس وللحياة، هي المدينة الوحيدة التي تحيط بالبحر من ثلاثة جهات، معادلة تقود إلى التفرد بأن تصبح عدن بحر وجنة. منذ الوجود إلى الآن مازالت عدن تحتفظ بذاكرة البشر الذين سكنوها ذات يوم ورحلوا عنها بصمت وتعاودهم الذاكرة والحنين أثناء بعدهم عنها. فعندما تقف في أي ركن من أركانها تشم رائحة البخور العدني، على رغم أصوات الرصاص تبقى لها نكهة خاصة، وعلى رغم بشاعة الإنسان الذي لم يعطِ لهذه المدينة ما تستحقه من مكانة تظل تفوح بطيبة أهلها وبخورها العدني. فعندما تكون في التواهي، القلوعة، المعلا، أو في الشيخ عثمان تجد بصمات من مر بها أو من عاش فيها. عدن هي المدينة الوحيدة التي لا تتنكر من ماضيها بل تحتفظ بكل الثقافات، وبصمت تجدها تحكي عن انتصاراتها عبر العصور؛ لأنها مدينة من الجنة لا تعرف الهزيمة ولا تكذب، ولو توهم من لا يقرأ جدران المدن ووجوهها. لست أدري لماذا تذمر الشاعر الفرنسي رامبو من وجوده في عدن في القرن التاسع عشر الميلادي؟ لعل به مس شيطاني؛ لأن من به مس من الشيطان لا يطول به المقام في جنة عدن الموعودة للصالحين في الدنيا. كأني أشاهد رامبو الآن في إحدى الصور، وهو ماسك بالقلم ويكتب في مذكرة صغيرة على أحد شواطئ عدن، والابتسامة لا تغادر شفتيه، لعله يكتب إحدى قصائده أو يكتب بعض مذكراته أو يراسل حبيبته البعيدة عنه في الطرف الآخر في إحدى مدن فرنسا. فقط في عدن يكون للأديب أو للشاعر أحاسيسه الخاصة مروراً بالشاعر الفرنسي رامبو ووصولاً بالأديب والشاعر العراقي سعدي يوسف الذي يظهر في قصائده عشقاً لا مثيل له لمدينة عدن. كأنه جزء منها أو كأنها جزء منه، لا يعرفان إلا العشق بينهما، على رغم بُعد المسافة من لندن إلى عدن. يكتب سعدي يوسف من لندنلعدن ويجدد العلاقة بين هاتين المدينتين بعد فصام طويل بينهما، ودماً يعيد الشاعر أو الأديب العلاقة بينه وبين المدن بشعره وروحه وعشقه للحياة حيثما ذهب، كما فعل رامبو ذات يوم عندما كتب من عدن إلى باريس. يشعر سعدي يوسف بالضياع عندما تبعد عنه عدن، ويضيع في الطريق على رغم معرفته بها مسبقاً ولا يعرف إلى أين يولي وجهه؛ لأنه يؤمن بأنها قبلة للحياة والبُعد عنها تضيع الحياة والإنسان معاً. كانت عدن بها أمة وتاريخ وحضارة، ومازالت كما يقول سعدي يوسف في إحدى قصائده: وكانت بها حضرموتُ الفريدةُ/ حيثُ المنازلُ من امرئ القيسِ حتى القمرْ .../ أين نمضي ، إذاً ، بعدَ أن بَعُدَتْ عدَنٌ ؟/ أين نمضي؟". على رغم بُعد المسافة بين سعدي يوسف ومدينة عدن مازال يتخايل شوارعها التي تجول فيها ذات ليلة هادئة وذات صباح مشرق، عندما كان بالقرب من شاطئ الغدير بالبريقة، بصحبة رفاقه البسطاء أحمد وزكي وسعيد، يناديهم من لندن وهم في عدن يتطلعون لحياة جميلة لهم ولمدينتهم عدن، وسعدي يوسف يشاركهم الحياة بقصائده وأشعاره : ماذا لو أني الآنَ في عدنٍ؟/ سأمضي ، هادئاً ، نحو " التواهي " .../ والقميصُ الرّطْبُ ، يعبَقُ ، من هواءِ البحرِ ./ في باب الجماركِ سوف أستأني قليلاً/ ثم أمشي ، نحو أطلالِ الكنيسةِ/ سوف أدخلُ:/ ثَمَّ أمسحُ من ترابٍ أسوَدٍ ، لوحَ البِلى .../ بحّارةٌ غرقى أراهم يملأون مقاعدَ اللوحِ العتيقِ ./ أرى ، هنالكَ ، بينَهم ، لي رفقةً .../ وأصيحُ :/ أحمدُ !/ يا زكيّ !/ ويا سعيدُ !/ ويا/ ويا.. ». فقط هذا الحب والعشق لعدن، لأنها مدينة من الجنة.