يقفز الهلع من عيني «أم سلمان»، وتجر الحسرة مع كل خطوة. تسأل الجيران عن صغيرها «سلمان» لعلّها تجد اجابة، ويرفل الحزن على أطراف عباءتها المنهكة. لا تزال متيقظةً تنتظر جواباً يقطع صبر الانتظار ومرارته، فهي لم تلقه في «اليم»، ولكن كارثة «سيل الأربعاء» جرفته بين طرفة عينٍ وومضها. تتذكر أنها طلبت من ابنها سلمان بعد صباح الأربعاء الممطر أن ينزل لتفقد إخوته في الجوار، وكلهم فرح ببشارة المطر، ومن جهة الشرق هدير السيل لم يسمعه أحد. التراجيديا عصفت بالمكان على حين غرةٍ من الجميع، ومع انطلاق صرخات المستغيثين والمفجوعين بالسيل الداهم، بدأت الأم في صراخها على سلمان ليرتقي بإخوته إلى الأعلى هرباً من جور السيل. استطاع الإخوة النفاذ بجلودهم من زبد الطوفان المخيف ولونه الطيني القاتم، عدا «سلمان»، فقد اختاره الزائر الثقيل ضيفاً، وسحبه بعيداً عن غرف المنزل ومجالسه إلى الشارع، وترك الجميع مصعوقاً للحظة، فذكريات الأم مع بكرها لا تزال طازجة بطلبها الأخير أن يرفع إليها الصغار، وحنان الأخ على إخوانه ما زال عالقاً في أذهانهم صوتاً. وبين فيضان «اليم» الطارئ وانحساره عن حي «قويزة» المنكوب، مرت الساعة دهراً على أم سلمان، فلا جريان السيول في الخارج يطمئن على عودة ابنها قريباً، ولا نزولها إلى الشارع سيجدي مع وجود بقية الصغار. وغشت حال الانتظار مسحة الكآبة، ومع انقشاع غيم اليوم الأسود وغياب الشمس بانكسارٍ حزين، خرجت أم سلمان ترمي أمل النجاة أمامها عساها تجد سلمان قادماً من آخر الشارع. دخلت الليلة الأولى متوحشة مخيفة على أهل «قويزة»، وزادت الوحشة في بيت أم سلمان مع كل ساعة تمضي ولا يبين البكر. لم تستطع صبراً، ففارقت بيتها إلى كل مكان، تقودها عاطفة الأم، وتحيط عينيها الغشاوة عن رؤية دمار السيل، وعن تذكر جواب سؤالٍ بسيط: «هل ينجو أحدٌ من مثل هذا؟». سعت بين أزقة الحي، وجابت أطراف الظلام حتى تبين لها الخيط الأبيض من الأسود إنه الفجر، ظهر ولم يظهر سلمان! عادت بها الذاكرة إلى الوراء، ولملمت نفسها مسرعةً إلى محل الإقامة الأول «حي المحجر»، تطرق أبواب الجيران، ومع كل طرقةٍ، يخفق قلبها «هل أجده هنا؟». ومع انفتاح الأبواب على صوت طارق الباب، استغرب سكان «المحجر» عودة أم سلمان، وبمعرفة سر العودة تحشرجت الأصوات تخفي دموع الرحمة، والألم وتجيب «لا... لم نر سلمان، يا أم سلمان»، وفي نفس كل واحدٍ إجابة وحيدة: «رحم الله سلمان غريقاً شهيداً». بين طوابير المنتظرين، تتحرق الأم المكلومة كبقية أهالي الحي المنكوب «قويزة»، بين تكذيب الواقع مع حقيقة فقدان أول أفراحها «سلمان» والانتظار على بصيص أمل بعودة الجسد الصغير من بين الأنقاض، أو التسليم بفقدان الروح وتحلل الجسد.