في العراق اليوم يموت كل شيء، الإنسان والنهر والنخل والحلم. لا يموت الإنسان في العراق بسبب السيارات المفخخة والعبوات الناسفة وحدها، بل تساهم الطبيعة والعراقيون أنفسهم في تعجيل هذا الموت وجعله ناجزاً. موت بالسلاح وآخر بالخطف وثالث بالعطش ورابع لأسباب تافهة مثل حوادث السير في الازدحامات الكابوسية في شوارع بغداد. يعلق المحتل الأميركي في سماء بغداد مناطيد تحوي أجهزة «سونار» لها القدرة على كشف الأسلحة على بعد ثلاثين كيلومتراً. وهذه المناطيد تغطي مساحة بغداد كلها وأي سيارة مفخخة تدخل المدينة تستطيع هذه الأجهزة كشفها. لكن الأميركيين الذين يحبون اللعب بالمصائر لا يبلّغون الحكومة العراقية بذلك. للعراقيين أجهزتهم أيضاً تلك التي جلبتها الشركات الأجنبية الكبرى لهم، لكنها للأسف لا تكشف الأسلحة ولا السيارات المفخخة. يروي سائق التاكسي متذمراً كيف أن أربعة ضباط بملابس مدنية ويحملون الأسلحة طلبوا منه أن يوصلهم إلى معسكر الرشيد ومروا على أكثر من سيطرة لم تكشف ما يحملون من مسدسات. لقد بلغ به السخط مبلغاً حين مر على سيطرة كبيرة ولم يكشف جهاز السونار أي شيء فصاح بأعلى صوته ان الركاب الذين يجلسون في سيارته يحملون أربعة مسدسات، فهل هذا معقول؟ في مدينة الكرادة وتُطلق عليها تسمية المنطقة الدولية لوجود الكثير من السفارات ومقار الأحزاب العاملة في السلطة، تُجرى عمليات الخطف المنظمة ليلاً ونهاراً وبعلم الأجهزة الأمنية على أعلى المستويات. يروي الضابط الشاب في حدائق اتحاد الأدباء كيف استطاع أن يخلص أكثر من ضحية اختطفت على أيدي رجال الجيش والشرطة في مدينة الكرادة وحدها. يقول: «دسسنا احد عناصرنا بين مجموعة من رجال الجيش والشرطة بعدما علمنا أن هذه المجموعة تمارس الخطف والتصفية الجسدية، وقد اخبرنا هذا العنصر باختطاف شاب قادم من الدنمارك اسمه علي وقد وضعوه في مؤخرة السيارة. يطلق المختطفون على ضحاياهم اسم «الطلي»، وتعني في الدارجة العراقية «الخروف» او كبش الفداء. وعادة ما يقتل المختطفون الضحية بعد استلام الفدية. من حسن حظ علي أن الضابط الشاب القادم من مدينة الثورة «الصدر» اليوم يتحلى بالكثير من الوطنية التي أصبحت غائبة الآن عن المواطن العراقي وانه يعرف الكثير من الأسرار الأمنية بسبب عمله في حماية شخصيات في السلطة». الدكتورة «همسة» المعروفة في مدينة الكرادة بكونها طبيبة نسائية ممتازة تحولت من طبيبة إلى خاطفة للنساء الجميلات اللواتي يزرن عيادتها للعلاج. تقول الأم للضابط الشاب إن ابنتها دخلت إلى العيادة ولم تخرج، انتظرتها في الرصيف المقابل للعيادة وحين تأخرت طويلاً قررت أن اذهب إليها بنفسي ولكنني لم أجدها داخل العيادة. لحسن حظ الأم وابنتها أيضاً أنها ذهبت فوراً إلى إحدى السيطرات القريبة وأخبرتهم بالأمر. في الثانية ليلاً توجه فصيل من القوات الخاصة إلى بيت الدكتورة همسة فوجدوا ثماني نساء مخطوفات أُجبرن على معاقرة الخمر وارتداء ملابس فاضحة مع عدد من الضباط من ذوي المقامات العالية، وكانت الفتاة المخطوفة حديثاً تجلس مرعوبة في الزاوية. هل هو تمزق وعي أم تمزق هوية؟ إستراتيجية النهوض بالثقافة! يحلم المثقفون العراقيون ببناء ثقافة عراقية حديثة بعيدة من العنف والتعصب العرقي والطائفي، لكنهم لا يعرفون السبيل إلى ذلك. وزير الثقافة الأسبق مفيد الجزائري دعا المثقفين إلى ندوة من اجل إستراتيجية للنهوض بالثقافة العراقية ولا نعرف كيف توضع إستراتيجية لبلد بلا ثقافة ولا مؤسسات ثقافية؟ المثقفون الذين حضروا الندوة تحدثوا في السياسة أكثر من حديثهم عن الثقافة وطالبوا السياسيين بالإنصات إلى مطالبهم من دون أن يدعوا سياسياً واحداً إلى ندوتهم! للمرة الثالثة يأتي التوزيع الطائفي بوزير للثقافة لا يفرق بين التلفزيون والمسرح وله وكلاء شيعة وسنّة منقسمون جعلوا وزارة الثقافة تتشظى في كل الاتجاهات ولم يطالب احد من المثقفين بإخراج وزارة الثقافة من المحاصصة الطائفية لأنها تمثل العراقيين جميعاً. الأكثر خزياً من كل ذلك ألا يعاد بناء مسرح الرشيد على سبيل المثال لأن اسمه «الرشيد» ولأنه بني في زمن النظام السابق. على بغداد العباسية أن تغير جلدها لأن الأحزاب الإسلامية التي تقود البلاد لا تريد لها أن تبقى بغداد عاصمة إحدى اكبر الحضارات في التاريخ. قصر الطاغية في مدينة بابل التاريخية على أبّهته فوق التل لاقى المصير نفسه بعدما نهبه اللصوص. هل هو تمزق وعي أم تمزق هوية؟ الفرات ملاعب لكرة القدم يستورد العراق اليوم كل شيء تقريباً خصوصاً الخضر والفواكه والمنتجات الزراعية الأخرى. وأكبر الموردين له، إيران وسورية وتركيا بعدما قطعت تركيا وإيران مياه دجلة والفرات ونهر الكارون. وقد تحول نهر الفرات في جنوب البلاد إلى ملاعب لكرة القدم حيث ترى الشبان وقد جعلوا الضفاف الناشفة أماكن لمزاولة لعبة كرة القدم. الكارثة الكبرى هي موت غابات النخيل التي لم تعالج منذ دخول الاحتلال وحتى الآن حيث يقدر بعض العارفين في شؤون الزراعة أن هناك أكثر من عشرين مليون نخلة ميتة في العراق، ما يعادل ثلثي عدد النخيل في بلاد الرافدين. يعمد بعض الفلاحين إلى حفر آبار على عمق عشرة أمتار من اجل الحصول على المياه الجوفية من طريق سحبها من خلال «موتورات» صغيرة، وغالباً ما تكون المساحات المزروعة صغيرة للغاية لأن المياه شحيحة ولا تتجاوز الخمسمئة متر مربع. بلد المياه يستورد مياه الشرب من مصادر عدة، ومن بين المصادر التي تزود العراق بمياه الشرب، المملكة العربية السعودية. الطبيعة، حتى الطبيعة تقف في وجه العراقيين، شح المياه في العراق يقابله شح عجيب في تساقط الأمطار، ما جعل العراق بلداً صحراوياً يصل الغبار فيه إلى كل مكان ويصبغ البلاد برمتها بلون رمادي مضيفاً رماداً إضافياً إلى حياة العراقيين التي لم تعرف غير هذا اللون طوال أربعين عاماً. أربعاء الرماد والأحد القاسي خمسة ضباط من الشيعة والسنّة كانوا وراء مذبحتي أربعاء الرماد والأحد القاسي، مرروا الشاحنات المفخخة مقبل ملايين الدولارات بأمر من الحزب الذي حكم العراق بالنار والحديد. استهدفت وزارة العدل لأن مجلس القضاء الأعلى فيها، المجلس الذي يصادق على إعدام الإرهابيين الذين يقفون وراء جرائم التفجيرات. القصة تقول إن مجلس القضاء الأعلى صادق على تنفيذ الإعدام بثمانين مجرماً قاموا بقتل آلاف العراقيين منذ أكثر من ثلاث سنوات وجاء التفجير ثأراً لهؤلاء المجرمين. التفجير الأخير أودى بأكثر من مئتي قتيل وأكثر من خمسمئة جريح، لكن وسائل الإعلام لم تذكر عدد الأطفال الذين قتلوا في بناية الوزارة التي تضم حضانة للأطفال يقدّر عددهم بالستين ولم ينجُ منهم سوى أربعة. الشعب مسؤول أيضاً يشكو العراقيون من انقطاع الكهرباء الدائم، لكنهم يساهمون في هذا الانقطاع بوعي أو من دون وعي. فعندما تأتي الكهرباء التي تزودهم بها الحكومة (الوطنية) كما يسمونها، يترك جلّ العراقيين كل الأجهزة الكهربائية تعمل سواء كانوا يحتاجونها أم لا. وبذلك يساهمون بإهدار كمية كبيرة جداً من هذه الطاقة التي يشكون من انقطاعها. على العكس من ذلك يقوم أصحاب (المولدات) وهي الطاقة البديلة بإطفاء الكثير من الأجهزة الكهربائية في محاولة للحفاظ على اكبر قدر من الطاقة الكهربائية. لا نعرف كيف يمكن توصيف هذه الحالة التي تبدو اقرب إلى انفصام الشخصية منها إلى أي توصيف آخر. العلاسة وهنا أروي هذه الحادثة التي كدت أتعرض لها على يد مجموعة من «العلاسة» في شقة أحد الأصدقاء. و «العلاس» لمن لا يعرف هذه الكلمة هو الشخص الذي يبيع الضحايا للخاطفين والقتلة مقابل مبلغ من المال شرط أن تكون الضحية شخصية مهمة. ولست هنا في صدد تقويم شخصي ككاتب أو صحافي، ولكن لأنني احمل الجنسية الهولندية، ومن هنا تأتي أهميتي كضحية. كان الاتفاق أن نسهر في شقة أحد الأصدقاء لفترة وجيزة وننهي السهرة قبل العاشرة ليلاً حتى دخل علينا ثلاثة رجال ضخام الأجساد والمسدسات في أحزمتهم، تبين أنهم من معارف هذا الصديق الذي صدم بحضورهم غير المتفق عليه. بعد اقل من خمس دقائق فهموا أنني قادم من هولندا في زيارة وبدأوا يتبادلون الإشارات والنظرات ذات المعنى. صديقي هو الآخر حضّني بإشارة من عينيه على الخروج خلفه بحجة الذهاب إلى الحمام وطلب مني المغادرة. عندما عدت إلى الصالة رن هاتفي وكان زوج أختي على الطرف الآخر من حسن الحظ وهو يقول انه ينتظرني عند باب اتحاد الأدباء كالعادة. لم تكن الشقة تبعد من بناية اتحاد الأدباء سوى خمس دقائق سيراً على الأقدام، ثم إن صديقي قال بدوره انه سيوصلني إلى الاتحاد، وهذا يعني أن العلاسة لن يتاح لهم الوقت الكافي للاتصال بالخاطفين، وهكذا نجوت. في زيارتي الماضية كنت متفائلاً بتحسن الوضع عموماً، لكن ما رأيته في هذه الزيارة جعلني افقد الأمل تماماً. على العراقيين أن يفعلوا شيئاً لإنقاذ أنفسهم، ولديهم اليوم فرصة عظيمة لفعل ذلك في الانتخابات المقبلة.