في المرة الأولى، تصادف موعد إغلاقي للمحل – الذي أتولى إدارته عندما يسافر الحاج - مع موعد لمِّه لفرشته، حيث يبيع سعيد الإيشاربات الرخيصة والأقمشة الشعبية. أخذته في طريقي، وفي السيارة كلمني في كل شيء، الكرة والسياسة وخطيبته التي ماتت وهي في زهرة شبابها، وحكى عن اشتياقه لها، وكيف ماتت – أجمل البنات - جرّاء خطأ طبي، قال إنها كانت (بنت موت)، وابتكر سبّة مركبّة لعن بها خاش أهل الحكومة والمستشفيات الحكومية، قاطعته وناولته سيجارتي ليرميها من الشباك المجاور له، قطع كلامه ونظر إلي باندهاش قبل أن يزمجر: اعذرني يا عم أحمد، ماينفعش. لم أرفع عيني عن الطريق، بِيدٍ كنت أمسك المقود وبالأخرى أمسك السيجارة المنتهية. حاولت أن أشرح له أن الشبّاك المجاور لي معطوب، وأني لا أمنّ عليه أو أحاول إذلاله لمجرد أني أوصله بسيارتي، غير أنه طرد أفكاري تلك قبل أن أقولها، عندما باغتني: (مايطفّيش نار الراجل غير المرا). *** ثم التقيته مجدداً، في إحدى زياراتي النادرة للمحل، احتضنني كمهاجر عاد للوطن بعد سنوات اغتراب، رحب بي وسحب كرسياً مكسوراً وطلب مني الجلوس، أرسل أحد الصبية إلى القهوة ليجلب الشاي المنعنع، سحب سيجارة نائمة خلف أذنه ودسها بين شفتيه، ثم عزم عليّ بسيجارة، أخرج علبة الثقاب من جيبه، أشعل سيجارته، كنت أنتظر منه أن يشعل سيجارتي بالعود نفسه، مددت عنقي وضممت شفتي لأقترب من عوده المشتعل، إلا أنه تركني على تلك الوضعية البهلوانية، ودسَّ عود الثقاب المشتعل بين سبابته والإبهام، ثم بحركة مخضرم، ألقى به لمسافة بعيدة، أمام عيني طار العود مخلفاً قوساً من الدخان. سعيد - بينما يرميني بتلك النظرة المبهمة - ابتسم، فبانت أسنانه الصفراء متآكلة الحواف، قال بمنتهى الجدية: (ماتقدّمش النار لصاحبك). *** لذلك، عندما لاح سعيد أمام المحل وهو يحترق، بعد أن أضرم النيران في نفسه لأن رجال البلدية صادروا فرشته وبضائعه للمرة الثالثة في شهر واحد، تجمّدتُ في مكاني، بينما تمرّ أمامي ذكريات كثيرة عن ذلك الشاب، الذي يمتلك فلسفة خاصة بالنار، استعدتُ أوقاتي معه، والسجائر الملفوفة التي كان يأتي بها لندخنها خلسة في مخزن المحل، وعواطفه الجياشة شديدة الإخلاص تجاه حبيبته الراحلة، التي لطالما تمنى أن ترجع له، أو يذهب هو إليها حيثما تكون. سعيد جرى بعد أن صار كتلة نار، وجرى رجال البلدية أمامه كالفئران، النساء صرخن وبكين، رمت إحداهن بطانية من شرفة منزلها ليخمدوا بها نيران سعيد، والرجال ارتبكوا وحوْقلوا وجعّروا وجلبوا قناني وجراكن المياه، كل هذا وسعيد يحترق، ويتماهى مع النار، بينما وقفتُ أنا داخل المحل أتفرج عليه بهدوء شكَّكني في إنسانيتي، أشعلتُ سيجارة، وظللت أتفرج على المشهد العبثي ومحاولات الشباب للإمساك بكتلة النار المحمومة، وحتى عندما وقف سعيد وقفته الأخيرة أمام المحل بالضبط، وهو ينظر الي ويصرخ، لم أحرك ساكناً، سحبت نفساً عميقاً من سيجارتي، وتذكرت مقولته «مايطفيش نار الراجل غير المرا»، وتركته، ليتحول إلى رماد.