قليلة هي المرات التي تمتلئ فيها قاعات يقرأ فيها الشعر في هولندا. حتى مهرجان الشعر العالمي الذي يُعقد في مدينة روتردام لا يحظى بجمهورغفير، لكن عندما ترافق الموسيقى الشعر في إطار مسرحي، لا يكون هناك مكان فارغ في القاعة. الفنانة الهولندية المتعددة المواهب مارلين سخوت استطاعت أن تجمع جمهوراً حاشداً، قدمت اليه شعراً وموسيقى ومسرحاً في قالب فني حاز على حماسة الجمهور. الشعر يخاطب الأحاسيس والرواية تخاطب العقل، هكذا يفكر الغربيون، وما أن تُصاب أحاسيسهم بالخمول، يلجأون إلى الشعر ليعيد إلى هذه الأحاسيس حرارتها المفقودة. مارلين سخوت وعلى مدى شهور طويلة فتشت عن أجمل القصائد المكتوبة باللغة الهولندية أو المترجمة اليها، واختارت منها ما يلائم مشروعها الموسيقي الشعري المسرحي «أنت جميل بشكل مختلف» ثم اختارت موسيقيين محترفين من بلدان عدة وظلت تتمرن معهم لفترة طويلة فخرجت بعمل أسر الحضور. اختارت مارلين نصوصاً لشعراء من هولندا وبلجيكا والأرجنتين واليابان والعراق واضطرت أحياناً للذهاب إلى بيوت الشعراء للحديث معهم عن نصوصهم التي اختارتها، تسألهم عن بعض الصور والمضامين الشعرية كي تستطيع أن تفجر هذه الصور على المسرح من خلال صوتها أولاً والموسيقى المرافقة ثانياً. بحثت في الكلمات، قلبتها، نطقتها بأشكال مختلفة من الداخل والخارج لتضعها في مكانها الصحيح، وكانت الموسيقى التي تسبقها أو تليها تضفي عمقاً غير مألوف على المشهد الذي بدا ساحراً. الجمال الذي تحدثت عنه مارلين سخوت في عملها الفني لا يشبه الجمال الذي نعرفه، لكنه جمال من نوع خاص لا يمكن مصادفته أو رؤيته في الشارع، بل يجب البحث عنه في كل مكان وفي أكثر المناطق عتمة. انه جمال المالنخوليا الذي تحدث عنه ذات يوم بيتهوفن بعدما انتهى من رائعته الخامسة «القدر». لم تكن الكلمات وحدها في العرض البديع ما «قيّد» الجمهور في المقاعد، فقد شاركت الموسيقى التي وضعها الموسيقي وعازف الكمان الروسي فلاديمير مندلسون في حث الكلمات على الإفصاح عن ما تريد أن تقوله. انه نوع من الهرمونية يجعل المستمع يرى لون الكلمات. استطاع مندلسون من خلال آلتي كمان وفيولا وآلة تشيلو أن يمنح النصوص الشعرية وجهاً آخر بموسيقاه الكلاسيكية الرصينة ذات المقطوعات القصيرة خصوصاً حين كان العازفون يستخدمون طريقة «البزكاتو» أو النقر بالإصبع على الأوتار أثناء العزف. كما ظهرت براعة الموسيقي حين أفرد وقتاً خاصاً لآلة التشيلو التي قدمت إمكانات موسيقية باهرة ومحيرة في الوقت ذاته ساهم فيها العازف الايطالي دوريل فودريانو. وكانت أصداء باخ وموتسارت حاضرة في موسيقى مندلسون خصوصاً القطعة التي اختتم بها العرض. مخرجة العرض ومصممة الرقص كورا بوس لم تستخدم في العمل سوى الإنارة وبعض الحركات البسيطة لكي تبتعد عن الخفة التي قد يثيرها الرقص خصوصاً أن النصوص الشعرية كانت تركز على الجمال المأسوي والبهجة الممزوجة بنوع من الكآبة. ففي مثل هذه العروض الاستثنائية يتوقف المخرج عند كل حركة وكل رشقة ضوء ليبقى التركيز كاملاً والإيقاع ساخناً. واستعانت بوس بلافتات بيض عليها كلمات مفردة مستمدة من النصوص الشعرية، لتملأ مساحة المسرح الكبيرة، وتساهم في تقديم رؤية بصرية إضافية إلى الموسيقى والحركة والإنارة.