أصدرت المحكمة الجزئية في مدينة بريدة بمنطقة القصيم، وفقاً لخبر انفردت به صحيفة «الحياة» في الأسبوع الماضي، حكماً بسجن ثلاثة سعوديين «عشر سنوات»، وذلك بواقع أربع سنوات لأحدهم، وثلاث سنوات لكل واحد من الآخرين، وجلدهم ما بين 300 و400 جلدة، لسرقتهم ستة رؤوس من الأغنام، إضافة إلى مصادرة سيارتهم التي حاولوا بيع الأغنام عليها، هذا الحكم يعيد ذاكرتنا للحكم الذي أصدرته محكمة بيشة منذ سبعة أشهر بشأن قضية سارقي الخروفين، الذي قوبل باستياء ورفض من عدد من القانونيين والاختصاصيين والمثقفين، وانتهى به المطاف إلى النقض من محكمة الاستئناف، التي وصفته بالحكم الجائر، وذلك للتباين الكبير بين الجريمة المرتكبة ومقدار العقوبة المبالغ فيها، ونعود الآن لنقرأ مجدداً عن أحكام بالسجن لسنوات، بإضافة لمئات من الجلدات لسرقة ستة رؤوس من الأغنام. صدور مثل هذا الحكم إلى وقت قريب قد لا يكون أمراً مستغرباً، وذلك لأن عقوبتي السجن والجلد يتعامل معهما كثير من القضاة على أنهما عقوبتان أساسيتان لكل جناية أو جريمة لم يرد في الشرع تحديد عقوبة لها، فيجازى بها غالباً المجرم مرتكب الإجرام للمرة الأولى، أو المجرم معتاد الإجرام، ويجازى بها من ارتكب جريمة خطرة، كما يجازى بها من ارتكب جريمة يسيرة، مع اختلاف في مدة السجن وعدد الجلدات، بل بلغ الأمر أن يوقع كثير من القضاة تلك العقوبتين على بعض القضايا الفكرية والثقافية، التي لا تتسم بالصفة الإجرامية لا من قريب أو بعيد، حتى أصبحت العقوبات التعزيرية منحصرة فيهما غالباً، بغض النظر، كما يقول القانونيون، عن كون المحل قابلاً لإقامة العقوبة عليه، كعدم التفريق بين الرجل والمرأة في أحكام الجلد التعزيرية، وكحكم الجلد الذي صدر في حق الإعلامية «روزانا اليامي»، وتم إلغاؤه من خادم الحرمين الشريفين، أو التفريق بين الجناية وغيرها، ومراعاة ما يوجب تخفيف تلك الأحكام. لكن الغريب أن مثل هذه الأحكام التعزيرية لا يزال يتوسع بالحكم بها في ظل تزايد مطالبة كثير من الجهات أخيراً بضرورة تطبيق ما بات يعرف بالأحكام القضائية البديلة عن عقوبة السجن، إذ دعا رئيس مجلس القضاء الأعلى الشيخ الدكتور صالح بن حميد القضاة إلى اعتماد بدائل السجون، بوصفها خياراً واسعاً لإصدار الأحكام التعزيرية، وكذلك دعا من قبلُ اللواء الدكتور علي الحارثي المدير العام للسجون بالمملكة «إلى ضرورة تطبيق الأحكام البديلة على وجه الإلزام، بناء على خلفية دراسة أجرتها إدارة «السجون» حول البدائل، وأرسلتها للجنة القائمة بهذا الشأن في مركز أبحاث الجريمة بوزارة الداخلية، وتضمنت كل البدائل المعمول بها في دول العالم كلها؛ وما يناسب تطبيقه في المملكة، وفق آلية محددة لتنفيذها، وذلك تمهيداً لإقرارها ثم تطبيقها رسمياً، وليس مبادرات فردية من بعض القضاة، المقصود بالأحكام البديلة وفقاً لما ذكر في مشروع بدائل السجن المقترح في وزارة العدل، أنها «مجموعة من التدابير التي تحل محل عقوبة السجن، وتعمل على تطبيق سياسة منع الجريمة»، وهي تتنوع من حيث التصنيف، بحسب الشرائح المستهدفة ونوعية جرمهم، فقد تكون غرامات مالية، أو أعمالاً خدمية أو اجتماعية أو تطوعية، فيها خدمةٌ للمجتمع وإرغامٌ للمذنب على ما يمنعه من العودة لجرائمه، وكذلك عقوبة الخضوع للمراقبة الاجتماعية من خلال ما يُعرف بالأساور الإلكترونية، والتوبيخ واللوم والتشهير أو الإقامة الجبرية، والمنع من العلاوات والترقيات الوظيفية، وتخفيض الدرجة الوظيفية، والنقل التأديبي للموظف، والمنع من السفر مطلقاً أو مقيداً بأماكن معينة، والإلحاق ببرامج الدعم الذاتي، أو الإلحاق بدورات تدريبية في تنمية الذات والقدرات والعلوم الإنسانية، على أن تكون الجهة المشرفة على تحديد وتقدير تلك الأحكام مكونة من مجموعة من المفكرين والمثقفين الاختصاصيين في علم الاجتماع والنفس والقانون، بحيث لا تكون محض اجتهاد فردي من القاضي. إن الحاجة إلى اللجوء للأحكام البديلة تعود إلى تعدي الأضرار والآثار النفسية والفكرية والسلوكية والمادية الخطرة التي تترتب عليها عقوبة السجن، التي لا يسع المقام لتعدادها، وحسبنا أن الدراسات والتقارير قد أثبتت فشل المؤسسة السجنية في تحقيق الأهداف الردعيّة أو الإصلاحيّة، فمن أهم مؤشرات هذا الفشل ارتفاع «ظاهرة العَود»، وهي «ظاهرة إجراميّة، تتجسّد في الفعل الإجرامي الصادر من شخص سبق له أن أدانته المؤسسة القضائيّة على فعل إجرامي سابق، ودخل بموجبه للمؤسسة السجنيّة»، فقد أشار تقرير وزراء الداخليّة العرب منذ سنة 1994، إلى أنّ نسبة العَود في البلدان العربيّة تصل في بعضها إلى حدود ال70 في المئة، وفي المقابل أثبتت الدراسات جدوى الأحكام البديلة بوصفها وسيلة فاعلة للوقاية من السلبيات المترتبة على عقوبة السجن، فقد أوصت المؤتمرات الدولية المتخصصة بالأخذ بها، ومنها المؤتمر السادس للأمم المتحدة للوقاية من الجريمة المنعقد في كاراكاس، الذي اعتمد في توصيته رقم 8 ما نصه: «العمل على نشر التدابير البديلة لعقوبة السجن في العالم على نطاق واسع، وذلك بإدخالها ضمن التشريعات الجزائية وإعطاء أجهزة العدالة الجنائية التأهيل اللازم لفهمها وتطبيقها واعتمادها». إن العمل بالأحكام البديلة في محاكمنا لن يكون ذا جدوى وفائدة إن لم يسبق بقناعة تامة من القضاة بأهمية تطبيقها بديلاً لما اعتادوا عليه، من الحكم بالسجن والجلد في معظم العقوبات التعزيرية، إذ أشارت الدراسة التي أعدها أستاذ علم الاجتماع والجريمة المشارك الدكتور عبدالله اليوسف إلى أن ما يزيد على 50 في المئة من القضاة في المحاكم الشرعية يرون أن السجن أفضل وسيلة لمعاقبة المخالفين، ولا ينظرون إلى أن للسجن ضرراً على المسجون في ما يتعلق بعزلته عن المجتمع، أو ضياع أسرته بشكل مباشر، في حين عارض كون السجن أفضل وسيلة للعقاب ما لا يقل عن 70 في المئة من الاختصاصيين الاجتماعيين، وكانت كذلك عقوبة الجلد الخيار والبديل الأول المفضل لدى القضاة، وعلى رغم قناعة بعضهم بنجاح تجارب الأحكام البديلة إلا أنهم يرون أن من الضروري الإبقاء على العقوبة التقليدية حقاً من حقوق القاضي، ولعل ذلك التوجس والهاجس مردّه للشعور والإحساس بأن الحكم البديل من شأنه التقليل من هيبة القضاء ومن حاجز العقوبة الرادعة، ولاشك أن هذا يستدعي القيام بحملات ومؤتمرات تثقيفية للعاملين في سلك القضاء، بأهمية تغيير العقوبات التعزيرية التقليدية، التي كانت تتناسب مع زمان ومكان معينين. ولكن تبقى إشكالية مهمة، فمعظم المؤيدين والمتحمسين لتطبيق بدائل عقوبة السجن يرون أن الأصل فيها عقوبة السجن أو الجلد من حيث التعيين والتقرير، والتقدير راجع إلى اجتهاد القاضي المستند إلى النظر المصلحي، الذي يناسب الواقعة والفاعل والمجتمع والزمان والمكان، فيبقى إصدار العقوبات التعزيرية في حيز اجتهادات القضاة، وهذا يدعونا للتأكيد مجددًا على أهمية وضرورة وضع مدونة لتقنين الأحكام التعزيرية، ووضع ضوابط وشرائط لهذه الأحكام، إذ الحاجة تبدو ملحّة لأن يكون ثمة تقنين واضح مكتوب لمثل تلك العقوبات، ولعل البدء بتطبيق الأحكام البديلة يكون مدخلاً لتسهيل عملية تقنيين الأحكام القضائية في المستقبل القريب. * كاتب سعودي. [email protected]