عاد رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير إلى الواجهة الإعلامية. هو الآن أفضل مثال للجدل الفلسفي القديم في مقولة الكذب والحقيقة. اللجنة المكلفة التحقيق معه ستركز على مخالفته القوانين وتزوير الوقائع، وعدم الإصغاء إلى المستشارين في الاستخبارات، واعتماده أطروحة جامعية سخيفة لإثبات أن العراق يملك أسلحة دمار شامل. في حوزة اللجنة وثائق وشهادات كثيرة تتهم بلير بالكذب لتبرير الحرب على العراق. واحدة منها تحذير خطي من مستشاره القانوني المدعي العام اللورد بيتر غولدسميث يحذره من أن إطاحة النظام العراقي مخالفة صريحة للقوانين الدولية. لكنه تجاهل التحذير ومارس ضغوطاً قوية على المدعي العام كي يغير رأيه. لم يكن بلير، في ذلك الوقت (عام 2002 )، مستعداً لسماع أي رأي مخالف لتوجهه. كان صراخ الرئيس جورج بوش القادم من العهد القديم كنبي، أعلى من أي صوت. وأهم من أي حجة قانونية. وقراره إعادة العراق إلى العصر الحجري، وتهديده كل من يعصى أوامره، هما القانون. لم يجد شريكاً أفضل من رئيس الوزراء البريطاني الذي كان يزايد عليه ويجتهد لجمع الحجج والذرائع لتبرير الحرب. كان أذكى من بوش. لكنه كان واقعاً تحت تأثيره. لم يكن أحد غيره مأخوذاً بكاريزما الرئيس الأميركي. لقبته الصحف البريطانية ب «كلب بوش المدلل». أثار قراره المشاركة في الحرب الرأي العام. سار في شوارع لندن أكثر من مليون متظاهر احتجاجاً على قراره. استقال وزير خارجيته روبن كوك. لكن كل ذلك لم يثنه عن مساندة «أحفادنا عبر المحيط»، على ما كانت تقول مارغريت ثاتشر. ليس من صلاحيات اللجنة التي شكلت للتحقيق في صدقية تبريرات بلير للحرب محاكمة احد أو إدانته. قراراتها قد تستخدم لعرقلة أي دعوى دولية لمقاضاته، خصوصاً أن رئيس اللجنة جون تشالكوت وأعضاءها عينتهم حكومة بعض وزرائها متورط في تحريف الأدلة (تزويرها) أو السكوت عن التحريف، ففي بعض الحالات تبطل المحاكمات الدولية إذا حققت السلطات الوطنية في القضية أو حاكمت المتورطين فيها. مهما كانت نتائج تحقيق اللجنة البريطانية سيبقى بلير مداناً لدى الرأي العام الذي عارض الحرب وتعاطف مع العراقيين. رأي عام لا يقتصر على البريطانيين، بل يمتد على طول القارة الأوروبية التي ارتفعت فيها الأصوات معارضة اقتراح ترشيحه لرئاسة الإتحاد. ولم يبق أمامه سوى مزرعة بوش في تكساس أو مركزه في اللجنة الرباعية الفاشلة أساساً والتي زاد فشلها وشلت حركتها منذ تولى رئاستها. سيقف بلير أمام لجنة التحقيق ليدلي بشهادته في تزوير الأدلة على امتلاك عراق صدام حسين أسلحة دمار شامل. وسيردِّد ما قاله خلال التحضير للحرب، أي سيحرف الوقائع . لكن هل هناك من يحاكمه؟ وهل هناك من يحقق مع شريكه بوش، أم إن ما يجوز في أوروبا لا يسري في الولاياتالمتحدة الأشد محافظة على العنفوان الوطني حتى لو كان ذلك على حساب قتل وتشريد الملايين؟ بعيداً من الجدل الفلسفي في مقولة الكذب والصدق، وخلاصتها أن الكذاب يقول الحقيقة دائماً، لن نعثر على من يقولها لا أمام لجان التحقيق ولا أمام المحاكم. ويبقى الرأي العام هو الحكم الوحيد وقد قال كلمته منذ بدء التحضير للحرب.