مع ان البرلمان العراقي يعد من اكثر البرلمانات كسلاً في العالم من ناحية نشاطه التشريعي، وأكثر البرلمانات دأباً على التغيب، والسفر الى خارج العراق بسبب او من دونه، فإن هذه المؤسسة النائمة استجمعت كل حميتها وأصدرت قانونين انتخابيين الواحد تلو الآخر في ايام قلائل. وسبب الحمية هو المعركة على تمثيل اهل الخارج. وأهل الخارج او جماعة الخارج لقب اطلقته أجهزة أمن صدام حسين منذ الثمانينات، وهو يتكرر اليوم بالنبرة ذاتها من الازدراء او التكاره. فالبقاء في الوطن بالأمس فضيلة، حتى لو كنت واشياً في مخابرات النظام القديم. والبقاء في الوطن اليوم فضيلة حتى لو كنت سياسياً مفسداً، نهاباً، سلاباً. فالمهم «البقاء في الوطن»، وأن تكون من «اهل الداخل»، لا من «اهل الخارج». ومثلما تتعارك الكتل البرلمانية اليوم على حقنا، حق اهل الخارج، في التمثيل، تعاركت الكتل والأحزاب معنا بالأمس على حقنا في الوجود اصلاً. أتذكر زعيماً سياسياً (زعيماً بمعايير العالم الثالث) كان معنا سنوات وسنوات في المهاجر، وبعد عودته إلى بغداد بأيام، ايام لا غير، صار يتحدث عنا نحن «اهل الخارج». وأتذكر زميلاً كاتباً هرب من العراق، وأقمنا له الولائم احتفاء بنجاته بعد نجاتنا نحن، فكان اول ما تفوه به ان «انتقد» اهل الخارج. وبعد هذا الانتقاد مكث في المهجر ربع قرن ولم يعد. اما الذي قضى معنا ربع قرن او اكثر ثم عاد، لينفخ نفسه بلقب مزوّر (شأن شهادات الكثر من المسؤولين وبعض النواب)، وليضع ريش الطاووس المسروق، ويغتني غنى فاحشاً ادخله نادي المليونيرية، فقد بادر الى الطعن بنا بمجرد جلوسه على الكرسي، باعتبارنا «اهل الخارج». واكتشف ناقد (من الأصدقاء) في تأملات هرمنيوطيقية (تأويلية) وتحليلات تفكيكية، ان ادب الخارج لا قيمة له، والسبب انقطاع «اهل الخارج» عن بنى الداخل. لم افهم كيف تهبط قيمة المرء لوجوده في حضارة عالمية، وتعلو قيمة آخر في بلد قطع استيراد الكتب اصلاً او كيف ينمو الدماغ في الداخل ويتضاءل في الخارج. في لندن رحت انقّب عن طبقات المهاجرين، مثلما نقّب غيري عن «طبقات الشعراء». فوجدت اننا نشبه لحاء الشجر، طبقة فوق طبقة. فهناك المهاجرون الشيوخ من العهد الملكي، وما ألطفهم، وهناك المهاجرون بعد انقلاب 1963، وهناك المهاجرون بعد انقلاب 1968، وهناك المهاجرون بعد ضرب الحزب الشيوعي في 1979، وهناك المهاجرون بعد ضرب حزب الدعوة في 1980-1981، وهناك المهاجرون بعد فشل انتفاضة 1991، وأخيراً مهاجرو فترة الحصار والجوع. وكانت هذه الطبقات من لحاء شجرة الهجرة متراكمة بألوان شتى، ترى من خلالها تاريخ العراق. ويوم بدأت الانتخابات التأسيسية الأولى في كانون الثاني (يناير) 2005 أنعم علينا قانون انتخابات الاحتلال بقوة تصويتية مستقلة. فأولاً كنا نصوت لقائمة، وكنا نأمل، على رغم تشتت اصوات المهجرين، بأن نتمثل في المقاعد التعويضية البالغة 45 مقعداً. وعلى رغم ان القانون الانتخابي القديم اخطأ في فتح العراق كله لدائرة واحدة، ما اذكى التكالب الطائفي والعصبوية الإثنية، الا انه كان بالغ السخاء في فتح الفرصة امام «اهل الخارج». واليوم يأتي قانون الانتخابات من برلمان اهل الداخل (وكثرة من اعضائه هم من اهل الخارج) ب 5 في المئة من المقاعد، لا ادري كيف احتسبت هذه النسبة. لست معنياً بالصراعات الفئوية، والمهرجانات الكلامية، والبلاغة الفارغة حول هذا الأمر، ما يعنيني هو الأرقام. فأنا مهاجر منذ 1978. ولا أنوي العودة، لأنني ببساطة احمل قلماً ولا احمل مسدساً، او حزاماً ناسفاً. وبقائي في المهجر خيار امني اولاً، وثقافي فكري ثانياً. فالبلد، بعد افتقاره الى من يلجم قطعان القتل، يفتقر الى حرية الفكر والنقد. فمن ذا يجرؤ اليوم على نقد اي قيادي، او اية فكرة تنتمي الى هذا التيار المسلح او ذاك؟ وأظن ان المهاجرين القدامى من امثالي، او المستحدثين، من امثال المليون ونيف عراقي المقيمين في البؤس في سورية والأردن ولبنان، يشعرون مثلي بالحيرة. من قرر اننا نستحق 5 في المئة من المقاعد. قد نستحق 3 في المئة او 15، او 8. فاختيار اي رقم او اية نسبة ليس شأناً من شؤون البرلمان، ولا من شؤون مفوضية الانتخابات، بل شأن مؤسسات الإحصاء. وحين يصوت البرلمان على نسبة 5 في المئة، او يعرض سياسيون زيادتها الى 10 في المئة، فإن الأمر مضحك حقاً. المجموع العددي الفعلي لأهل الخارج هو الذي يقرر نسبة تمثيلهم. وهذه مسألة لا تخضع لتصويت بالمعنى التقني، مثلما ان عمر المرء لا يخضع للتصويت، ومواعيد الشروق والغروب لا تخضع للتصويت. بوسع البرلمان ان يتخيل نفسه قادراً على التصويت على تأجيل الكسوف والخسوف، او تغيير الضغط الجوي. وأجد اعتراضات الهاشمي واعتراضات المعترضين مفتقرة الى ابسط حدود اللياقة العلمية، اعني الإحصاء. العراقيون المهجرون والمهاجرون منذ 1958، قد يناهزون المليون، ولربما اكثر. والهجرة الجديدة طلباً لحق الحياة، بعد عام 2003، وخصوصاً خلال عامي الحرب الطائفية 2006-2007، موثقة لدى الأممالمتحدة، مثلما ان اعداد المهاجرين قبلهم موثقة في دول اوروبا والأميركتين. كل هذه الجعجعة بلا معنى، عدا تكالب بعض الكتل على حرمان «اهل الخارج» من التمثيل. لقد تكرمت كتلة دولة القانون علينا بإيصال اصواتنا الى محافظات مسقط الرأس، لكأننا في انتخابات بلدية لاختيار من سيبلط شوارعنا، او كما حصل في بلدية بغداد، من سيكون السارق الجديد لموازنات مدننا. ينبغي اعتبار «اهل الخارج» دائرة انتخابية واحدة، لها نسبة من المقاعد تتناسب مع وزنها الديموغرافي. اما تفتيت اصوات اهل المهجر على المحافظات فإجراء فاسد. ان جل المهاجرين هم من ابناء الطبقات الوسطى الحديثة، والمتعلمة، وبعضهم من ارفع المتخصصين والتكنوقراط. وهم خليط مسلم/ مسيحي، شيعي/ سني، ولعل المسحة الأبرز انهم ينحون في الأغلب الأعم منحى علمانياً ولا يشترون الطائفية بقرش. ولربما هذا هو سر الخشية منهم، وسر التسارع الى تفتيت اصواتهم على محافظات لا صلة لهم بها. كان على قائمة دولة القانون والقائمة الكردستانية ان تبادرا الى الحفاظ على حق اهل الخارج، الذي كفله قانون الأجنبي بريمر، لا ان تعمدا الى الغاء هذا الحق الذي شرعه قانون برلمان «الأهل»، برلمان الكسل والجهل.