كثيرون تحدثوا عن محنة الدولة العربية في الزمن القومي المنصرم كما في الزمن العولمي الراهن، وكثيرون رأوا أن هذه الدولة لم تعد تحتوي طموحات أبنائها وتطلعاتهم المشروعة، فلا هي أباحت لهم المشاركة السياسية وتداول الحكم سلمياً، ولا هي وفرت لهم مستوى عيش كريم، ولا هي قامت على أسس رشيدة في الحكم سواء كان التاج ملكياً أم الشعار جمهورياً. ولا شك هنا أن في هذا التعميم بعض الاستثناءات، ولكن كما يقول متكلمو المنطق إنه الاستثناء الذي يثبت القاعدة الغالبة ولا ينفيها. ولما كان العلم الدقيق يقوم على الترجيح والتكهن المنضبط، فما وصف آنفاً هو الأرجح. والأمثلة على ذلك كثيرة، أبرزها تلك المحنة التي تعيشها الآن العلاقات المصرية - الجزائرية بسبب مباراة في كرة القدم حولت الرياضة من لقاء وتواصل إلى مُحفز للتباعد والتنافر وكسر لقواعد الضيافة والترحاب ومتنفس للعنف الغرائزي وقطع للروابط والوشائج. والاحتمالات التي يتداولها الباحثون المهتمون بمستقبل السودان الشقيق وغالبيتها ترجح انفصالاً في الأفق وحروباً أهلية، والحالة التي يعيشها اليمن والمواجهة مع الحوثيين وما تثبته من العلاقة بين غياب العدالة واستدعاء الحرب، والعراق الذي ما زال يبحث عن ذاته ويلملم أطرافه تحت عناوين عدة أبرزها قانون الانتخابات المختلف عليه بين واضعيه ومشروع الجيش غير المشروع للأكراد، والقلق الذي يعتري السلطة الوطنية الفلسطينية حول مستقبل بقائها في ظل انقسام آخذ في التعمق وتسوية تأكد عقمها ومقاومة باتت محاصرة بأبنائها قبل غيرهم، واللا يقين الذي يسود لبنان على رغم تشكل حكومته الجديدة بعد معاناة شديدة، ناهيك عن مصير الصومال الذي لا يُعرف له اتجاه أو بوصلة، والكل ينأى بنفسه عن أغواره ومفاجآته. وأمثلة أخرى كثيرة. وفي كل ذلك تعبر المنظمة الجامعة للعرب عن قصور في الحركة لأسباب لا علاقة لها بكفاءة العاملين فيها، فهي كفاءات شخصية مشهودة ومقدرة، وإنما بسبب أوضاع أعضائها المنكفئ كل منهم على ذاته وعلى مصالحه الضيقة، بل في بعض الأحيان الشديدة الضيق. وبما يؤكد المقولة المعروفة أن قوة المنظمة الإقليمية هي من قوة أعضائها وترابط مصالحهم وتشابك مجتمعاتهم ووضوح رؤيتهم، والعكس أيضاً صحيح، فضعفها هو نتيجة منطقية وطبيعية لضعف الأعضاء وانفراط الروابط في ما بينهم. حين كان النظام العربي في عنفوانه القومي، كانت هناك حرب باردة عربية بين قسمين من العرب، ثوريين راديكاليين وآخرين محافظين، وكانت النتيجة المعروفة هزيمة أمام العدو الأول للأمة العربية. والآن لا تبدو النتيجة مختلفة كثيراً، فعلى رغم أننا في زمن العولمة بما فيه من فرص وتحديات وتشابكات في المصالح وإمكانات التواصل اللا نهائي، فهناك هزيمة كبرى يعيشها النظام العربي وإن كانت من نوع مختلف. إنها هزيمة التقدم وتجذر التخلف والانقسام. وبالتالي تحققت النتيجة نفسها، أي الهزيمة أمام العدو ذاته التي تتمثل في غياب القدرة على استعادة الحقوق المشروعة. النتيجة الواحدة على رغم اختلاف الزمن تستدعي منا التحري عن الأسباب الحقيقية، والتي أعتقد أنها مرهونة بالدرجة الأولى بطبيعة الدولة العربية التي نعيش جميعاً في كنفها. تلك الدولة التي تجتمع فيها كل السلطة في بؤرة ومركز واحد، وربما كان تعبير المخزن الذي يسود في تحليلات تاريخ نشأة الدولة في المغرب مناسباً هنا للجميع وإن بدرجات مختلفة. باعتبار أن المخزن هنا هو مركز السلطة والتأثير والمال والعنف المشروع. وإلى جانب هذه البؤرة المركزية للسلطة تتحلق تجمعات مختلفة سواء مؤسسات أو جماعات مدنية أو منظمات غير مشروعة قانوناً، ولكنها لا تحصل على القدر الكافي من السلطة والتأثير المناسب في حركة المجتمع، ومن ثم يحدث التباعد والتنافر بين المركز وبين الدوائر المتحلقة حولها، ويحدث أيضاً الشعور بالغربة وعدم اليقين والرغبة الغالبة في الانكفاء على الذات والانقطاع المعرفي عن التاريخ والتراث وغياب الرباط الجامع الأكبر، وهو ما أفضل تسميته بغياب البوصلة المجتمعية وفقدان العقل المركزي لدوره، وما يتولد منه من شعور كل جماعة فرعية بحقها المشروع غير المقيد بأن تحقق أهدافها ومصالحها الضيقة من دون الأخذ في الاعتبار مصالح الجماعة الأكبر، سواء كان المجتمع المحلي المباشر أو المجتمع القومي الأكبر. بل في بعض الأحيان تشعر هذه الجماعة الفرعية الصغيرة بأن وجودها الأصلي مرهون بنفي الآخر وإقصائه، أو تشويه سمعته أو قتله معنوياً، وإن أمكن تحطيم إرادته لفعلت بكل رضى وسعادة. وربما يساعد هذا الاجتهاد المتواضع في تفهم تلك المحنة التي تعيشها العلاقات المصرية - الجزائرية، كما يسهم أيضاً في تفسير الكثير من محن الدولة العربية التي أشرنا إلى بعض أمثلتها الصارخة. بيد أن المثل الجزائري - المصري يستحق وقفة أكبر لما فيه من دلالات ودروس. بعضها يمتد إلى نماذج عربية أخرى. فالبلدان يعيشان مرحلة تحول مجتمعية كبرى، وفي كل مراحل التحول يحدث الاشتباك بين توجهات القديم المُجرب، وتوجهات الجديد البازغ. وهنا فالعولمة بما فيها من انفتاح ذاتي أحياناً وقسري غالباً، وبما تفرضه من آليات معالجة مختلفة عن تلك التي سادت في زمن كان يمكن فيه كسر أعناق الناقدين لمجرد كلمة أو عبارة عفوية، أعطت مساحة لكل من يريد أن يكشف عن مكوناته المكبوتة تجاه الآخر سياسياً وفكرياً وإنسانياً وهكذا، وفي بعض الأحيان من دون محاسبة أو مراجعة ذاتية. كما أعطت مساحة تأثير منفلتة وغير مقننة لجماعات امتلكت بحكم مهنتها وسائل الوصول إلى الآخر بحرية ومن دون قيود. هكذا جاءت سطوة قنوات رياضية ومواقع على الإنترنت لصحف قد لا توزع ورقياً أكثر من مئة نسخة، لتصيغ تيارات من المشاعر وتصنع توجهات سياسية وتلقي بظلالها السوداء على قرارات كبرى استغرق تطبيقها سنوات وسنوات، بدأت تؤتي أكلها، وإذا بها في مهب الريح. ولما كان الإنسان العربي الآن مُستلباً أمام سطوة الفضائيات تنفيساً عن تغييبه وتغيبه سياسياً ومدنياً وحزبياً، فقد أصبح سهل الانقياد والتأثر والانفعال من دون تحقق أو تأكد، فكل ما يسمعه على القنوات الفضائية أو يقرأه على مواقع الإنترنت هو الحقيقة الصافية. الأمر على هذا النحو ليس كافياً لتحميل الإعلام وحده مسؤولية ما جرى، وهو مسؤول بالفعل عن تلك المحنة. إذ علينا أن نغوص قليلاً في مالكي هذه القنوات والصحف، ونغوص أكثر في توجهاتهم الأيديولوجية وخلفياتهم الثقافية وبالأخص العروبية بمعناها الترابطي والمصلحي والبراغماتي، وليس بالضرورة المعنى القومي الكلاسيكي المشتبك كلياً مع فكرة الدولة العربية الواحدة. كما علينا أن نغوص أكثر في مسؤولية غياب العقل المركزي هنا وهناك وأثره في انفلات المعالجة الإعلامية إلى ذرى السباب والشتائم المتبادلة والتعبئة الخشنة من أجل هدف عابر ومتغير، وإن أضاف إلى معنويات الناس قليلاً لكنه لا يحقق تقدماً اقتصادياً ولا رفعة في مستوى المعيشة ولا اختراقاً غير مسبوق في المكانة الدولية، ولا تغييراً في الحالة السياسية وإصلاح المتردي منها. جزء من هذا الغوص سيقودنا إلى تلك التوجهات الكامنة تحت السطح والتي تلتف حول دوائر في السلطة بطموحاتها المشروعة وغير المشروعة، وأخرى تلتف حول القوى البازغة اجتماعياً وسياسياً الطامحة للمزيد من النفوذ والتأثير، وثالثة تتراوح بين هذا وذاك وديدنها اقتناص الفرص لا أكثر ولا أقل. نحن إذاً أمام انقسام رأسي وأفقي في آن واحد، بين عروبيين وقوميين وإسلاميين أمميين وجهاديين ومذهبيين وطائفيين، يوازيهم ويقابلهم انكفائيون براغماتيون ضيقو النظرة ومحدودو البصيرة، وفي داخل كل فريق تنويعات شتى، من المحبطين واليائسين والفوضويين والماسكين على الجمر، والاستئصاليين والمتغربين وفئات من الانتهازيين. قد يقول قائل إن التنوع سنة الحياة، وإن هذا تعبير عن غنى العرب، وهو صدق إن ارتبط بنظام يؤكد التعددية ويقبل حكم الناس ويسمح بالتداول السلمي للسلطة، ولما كان الأمر عربياً غير ذلك، فنحن أمام الوجه الأسود، وهو أنه انقسام بنيوي ينال من عمق المجتمع والسياسة والإعلام والاقتصاد، وهو المسؤول عن دعوات تنزع نحو رؤية أن الذات بمشاكلها وقدراتها تكفي، وأن التحلل من الروابط القومية أصبح ضرورة حتى لا ينال المرء ما ينغص عليه حياته، وأن الكرامة الوطنية ترتبط بالقطيعة عن الجوار والانقطاع المعرفي عن التاريخ في آن، وأن الآخر فيه كل العيوب والبعد عنه غنيمة، وأن الذات ليست سوى بلورة مضيئة أو ماسة تجذب الأنظار، وأن الخير فقط هو ما بيدي، وأن الجمر هو ما بيد الآخر. هكذا انقسام مجتمعي بنيوي يصيب مجتمعاتنا العربية ونُظمنا السياسية كفيل بأن يُخرج كل الغرائز والحساسيات والمشاعر الغليظة، والبركة هنا والفضل لوسائل العولمة الجديدة غير القابلة للتستر أو الاختفاء أو الرقابة، اللهم سوى رقابة الضمير الحي اليقظ الواعي، وهو العامل الذي يبدو غائباً في كثير من مراكزنا العربية. وحين ينسد الأفق في الداخل تُفتح له ثغرة لينفس عن نفسه في الآخر. والمشكلة في العالم العربي أن هذا الآخر هو الشقيق الذي نلجأ إليه وقت الشدة، لكن البعض منا بات يرى أن الشقيق هو نفسه الشدة والضيق. * كاتب مصري