في بهو فندق آشتي (السلام) في مدينة السليمانية في إقليم كردستان (العراق) يجلس مثقفون وكتاب جاؤوا من بغداد والبصرة وإيران وفرنسا وألمانيا والأردن وتركيا للتحدث عن الآداب والثقافة والسياسة. يتناولون الشاي الكردي «الثقيل» والقهوة التركية ولا يدركون طبيعة ما يدور حولهم من أحاديث، جراء جهلهم اللغة الكردية. جاؤوا إلى السليمانية للمشاركة في مهرجان ثقافي سنوي كردي يقيمه مركز «كلاويز» الثقافي في هذه المدينة التي يعتبرها الأكراد عاصمة ثقافية للإقليم. اتسمت أيام المهرجان في دورته الثالثة عشرة التي أقيمت بالتعاون مع مؤسسة «المدى» بحيوية ملحوظة شهدت أمسيات و«صبحيات» من مشارب أدبية وفنية وفكرية مختلفة. ما يمكن ملاحظته في دورات هذا المهرجان الذي أصبح تقليداً سنوياً في مدينة السليمانية، هو حضور الكتاب العراقيين من الداخل والخارج، ويعتبر بعضهم أن المهرجان يقدم للكثير منهم فرصة مفتقدة في المشهد الثقافي العراقي تساعدهم في التعرف على الثقافة الكردية. إلا أن الملاحظة الأولى التي تتبادر الى الذهن هي ان الأحاديث اليومية في بهو فندق آشتي والأمسيات الأدبية والندوات الثقافية كانت تقتصر على الترجمة في معظم الأحيان، أو تُحصر بين عدد قليل من الكتاب لا سيما إذا دار الحوار باللغة العربية مثلاً. والسبب هو ان الأجيال الكردية الجديدة لا تجيد العربية ولا تعرف عن الثقافة العربية سوى الصورة الإعلانية اليومية والناقصة، التي تقدمها القنوات التلفزيونية العربية والكردية، فالنصوص الشعرية والأدبية العربية التي قدمت في أيام المهرجان لم يعِرها الجميع الاهتمام المفترض، فثمة نخبة قليلة تفهم العربية وتجيدها. أما المحاضرات الفكرية والسياسية والثقافية فكان يتم اختصارها وتقديم نبذة عنها، وقد غابت الخيوط الأساسية فيها أحياناً كثيرة. الملاحظة الثانية تأتي في سياق الأولى، وهي ان مهرجان كلاويز الثقافي المشترك بين مركز كلاويز ومؤسسة «المدى» يظل جسراً أخيراً بين العراقين العربي والكردي، لا سيما في ظل الأوضاع العراقية الراهنة إذ يبدو اقتضاء الثقافة فيها نوعاً من الاستجداء السياسي. قال أحد الكتاب العراقيين في بهو فندق آشتي عن هذا المهرجان، «انه الجسر الأخير بين المثقفين العرب والكرد في العراق». وحين سألته لماذا وهل لديكم في بغداد مشروع آخر يضيف الى هذا المهرجان توأماً متأخراً مثلاً، ارتجل محاوري فكرة بدل الإجابة، وراح يسأل كاتباً كردياً يتكلم العربية وكان جالساً الى جانبه، عن إمكان الحصول على نصوص ومقالات كردية مترجمة إلى العربية بغية نشرها في صحيفة عربية في بغداد. هذا مشهد يختصر العلاقة الكردية - العربية في العراق حيث يبدو الارتجال فيها نوعاً من الطغيان الإدائي الفصيح. فتفاصيل العلاقة ذاتها تسيّرها آثار عقود من الظلم والاستبداد والعزلة والتعصب، هناك ذاكرة مثقلة بحيثيات العزلة التي عاشها المثقفون العراقيون في العقود الأخيرة، أما المثقفون الأكراد فاستردوا ذواتهم في العقد الأخير من القرن الماضي في بقعة معزولة عن العالم، ومع ذلك، هناك أفكار وتصورات «وردية» عن الحوار والجسور الثقافية بين التكوينات العراقية، لكنها تحتاج الى تخطيط من شأنه جعل التواصل الثقافي بين تلك التكوينات جسراً حقيقياً ومتيناً من خلال الشراكة الطويلة الأمد. هناك اليوم جدار في العراق تزداد سماكته يوماً بعد يوم، وهو جدار اللغة وجهلاً بدورها الكبير في بناء مكان للتفاهم والتواصل. تفتقد كردستان اليوم جيلاً كاملاً يجهل لغة الضفة الأخرى للعراق، ويفتقد العراق روح المبادرة تجاه الثقافة الكردية، وقد يفتقد الطرفان المترجمين بعد عقد أو اثنين من التباعد والانعزال.