كيف جاء المطر إلى جدة؟ لست أدري، فأنا ما زلت محتاراً من هذا المطر غير «الحيي»، فكيف له أن يأتينا من دون أن يرسل المراسيل ويكتب المكاتيب؟ أليس من واجب الضيف أن يستأذن قبل الزيارة حتى ولو كانت زيارة ثقيلة؟ ألا يعلم زائرنا المميت، أن كل مهندسي أمانة جدة متعلمون «وفاهمون»؟ وأن كل خبراء الأرصاد أيضاً «جاهزون» ومتابعون لكل قطرة مطر تتجرأ على زيارة شوارع وأحياء جدة؟ ألا يعلم «جنابه» أن لدينا بروفيسورات ودكاترة في كلية اسمها كلية الأرصاد؟ يعيشون بيننا ويقضون الليل والنهار في درس الطقس ويجرون أبحاثهم العلمية ويصدرون للرأي العام بشكل دوري توقعاتهم اليومية ولو من باب الأمانة العلمية فقط؟إذن فقد كان على هذا الزائر المخيف لجدة أن يبعث «جواباً» للسادة المهندسين والعلماء والخبراء ورجال الإنقاذ حتى لا يعكر عليهم إجازة الحج الطويلة ويقض راحتهم، فلو أنه تجاوز لهذه المرة فقط وأخبرنا بمجيئه دوناً عن العالمين، لكنا احتفينا به أيما احتفاء، ولكنا نرصع اليوم «منشتات» الشكر في الصحف اليومية عرفاناً ببسالة رجال الأمانة، وحيوية رجال الإنقاذ الذين «صرفوه» بعيداً عن جدة، ولكنه في ما يبدو لا يعرف هذا «المطر» عن خصوصيتنا الفريدة من نوعها في العالم حتى الآن. إن ما حصل أيها السادة لجدة وأهلها كارثة حقيقية، فقد باغت المطر جدة ساعات عدة فقط، وهي نائمة مستلقية عقب ساعات الفجر الأولى، فقتل الموظفين المتوجهين لأعمالهم، وعمل المصائد للعائلات التي التهمتهم، وشيعتهم فوق الأرصفة، وطافين بين السيارات، لذلك فإن تحرك الدولة تجاه محاسبة المقصرين وتعويض المتضررين، ومن ثم تسريع عجلة المشاريع، وهو أقل ما يمكن عمله مع هذه الفاجعة التي ضربت الأسر «الغلبانة» في مأمنها والآمنين في طرقهم وبين أحيائهم. أتمنى ألاّ يأتي من يقول لنا إنكم تنظرون للنصف الفارغ من الكأس، وتتجاهلون عن عمد النصف «المليان» منه، إذن لماذا بيوت هؤلاء الموظفين والمسؤولين في الأمانة ووزارة المواصلات كلها «كأس ملآن»؟ لا يأتيها المطر من بين يديها ولا من خلفها؟ لماذا بيوتهم لا تنتظر الاعتمادات المالية وبيوتنا « تقرقر» من المطر؟ لماذا يحاسبون مقاوليهم ولا يحاسبون مقاولي جدة؟ لماذا يعيشون في أمان وتعيش جدة في خطر؟ إذن لا يوجد نصف كأس ملآن ونصف كأس فارغ، توجد «أمانة» كاملة أو لا توجد. فكيف يخرج المطر من بين أيدي جدة، التي أثقلوها بمشاريع «القص واللصق»، ويدخل معنا في بيوتنا ويشاركنا فراشنا، ويأخذ منا أعزاءنا وأطفالنا، وأكثر من 80 روحاً، من دون أن يُنذروا جدة وأهلها بهذا الخطر؟ كيف يعرف العالم ولا نعلم؟ هل كل ذلك التعليم والتدريب الذي بذلته الدولة لهم ذهب سدى؟ وهل يعلم السادة مهندسو الأمانة ووزارة المواصلات وخبراء الأرصاد ورجال الإنقاذ أن هناك شيئاً اسمه الإنذار الباكر؟ يمكن الوصول إليه من خلال «مراكز الأرصاد الجوية» المنتشرة حول العالم؟ وأنهم «بدوسة» زر يمكنهم أن ينتقلوا من «صفحات الساحات» ومواقع الأسهم التي أشغلتهم، إلى موقع «ياهو» العالمي، إذ يجدون في طرفه الأيسر «أيقونة الطقس»، التي ستخبرهم أن جدة ستتعرض لعاصفة ممطرة ورياح شديدة قبل أسابيع وربما قبل أشهر؟ بل ستعطيهم أين ومتى ستمطر العام المقبل إن صادف ذلك العام إجازة أخرى لهم! ستعطيهم «ياهو» من دون جهد ولا تعب ولا أبحاث يجرونها، فقط «بدوسة» زر كان يمكن أن تنقذ أرواح «الغلابة» الذين التهمهم السيل وسوء مشاريعهم التي أشرفوا عليها. جدة هذه المدينة الساكنة بآلامها، لا تزال تترنح تجاه الأسفل، وكلما قاومت ظهر الإعياء عليها، نتيجة حتمية لسنين من المرض والإهمال و«الترقيع» وتأخير المشاريع، حتى تحولت من مدينة تتسع ل400 ألف نسمة إلى مدينة تغص بستة ملايين ساكن خلال 30 عاماً فقط، وعندما انفتحت «بقجة» المشاريع «المقنطرة» كانت أمانة جدة فقدت خبرتها في إدارة المشاريع الكبيرة، وأصبحت تلف حول نفسها، فالمشاريع لا تنتظر، والخبرة بدائية وضعيفة، وظهر ذلك جلياً في المشاريع الجديدة التي كانت أول ما أدركه الغرق في «وحل» مياه المطر الغادر، ووجدناها أقسى المصائد التي التهمت الأرواح البريئة. [email protected]