صحيح. الكرة ساحرة، لكنها ليست شمطاء. ثمة سحرة آخرون. في كل أصقاع الدنيا ثمة كرة قدم ومنتخبات وأندية ولاعبون وملاعب ومدرجات ومشجعون ومشاغبون، لكن المباريات مهما كانت نتائجها لا تصير حرباً بين دولتين، ولا كراهية معلنة بين «شعبين شقيقين». وطني حبيبي، الوطن الأكبر. ها قد صار أقّل من مساحة كرة. الكرة ساحرة، لكنها ليست شمطاء. ثمة سحرة آخرون، سحرة مهرة، يلقون عصيهم فإذ بها أفاع تسعى وتنفث سموم الفتنة والفرقة، وتصبّ الزيت على نيران الأحقاد الدفينة بين «الأخوة الأعداء»، فتتراجع مشاعر الأخوة وتتصاعد مشاعر العداء. ما جرى ويجري بين مصر والجزائر لا يبرهن على سحر الكرة، بل يكشف رثاثة الواقع العربي، وهشاشة البنية النفسية والمعنوية (وسواها) للفرد العربي الذي يفجّر مكبوتاته جماعياً عند أول فرصة في معزل عن أهميتها ومصيريتها. شعوب وجموع مكبوتة ومقموعة لألف سبب وسبب، وعلى أيدي ألف سلطة وسلطة، سياسية ودينية واجتماعية وأمنية واقتصادية وفكرية وإيديولوجية، وجاهزة للانفجار... لأتفه الأسباب، ما عدا الأسباب التي تستحق وتستأهل. الكرة ساحرة، لكن ثمة سحرة أكثر براعة وإتقاناً، نجحت «عصيهم» و «أفاعيهم» في تسطيح الجمهور وفي إفراغ العقول، وفي شحن النفوس وشحذ الهمم، وتصوير المسألة وكأنها «أم المعارك». السحرة كثر، هنا وهناك، في كل «الملاعب»، لكنهم لا يستخدمون أقدامهم بل عقولهم. والجموع حاضرة ناضرة لكنها لا تستخدم عقولها بل أقدامها وأيديها، تضرب وتحطّم وتجعجع لغاية تختلف كثيراً عمّا في نفس يعقوب! ما حدث ويحدث بين مصر والجزائر، إن دلّ على شيء غير الرثاثة والهشاشة، فإنه يدل على توقٍ كامن في لاوعي الجموع لتحقيق الانتصارات، ولو بواسطة الأقدام التي تركل الكرة ببراعة وإتقان، بديلاً من عجز العقول المفترض بها صناعة انتصارات من نوع آخر. ماذا عن مكافحة الفقر، محو الأميّة، محاربة الفساد، خطط التنمية، (كي لا نقول مواجهة الأطماع الإسرائيلية، أو إيجاد موقع ندّي للأمم الأخرى الناهضة)؟ تلك أمور لا تستدعي استنهاض الهمم وحثّ الجموع وتحريض الناس، ولا تدفع بعض المثقفين والفنانين والإعلاميين الى الانفعال والردح كما لو أنهم عند «باب الفرن»، فيما العقلاء وهم كثر في مصر وفي الجزائر لا تتسع لهم شاشة ولا يستقبل حبرهم ورق! لا يمكن أي حريص على مصر أو على الجزائر، أو على كليهما معاً أن يشارك في المعمعة الدائرة حالياً... بل ان يرفع الصوت مذكّراً بتضحيات الشعبين، بتاريخهما الناصع، بكل ما قدماه للإنسانية برمتها، ولقيم الحق والخير والجمال والإبداع والحرية منبهاً كليهما الى أن «اللعبة» مش نظيفة أبداً، وأن ما يجري مسيء الى طرفي الصراع الدائر على كأس باتت مرّةً وعلقماً من دون (وقبل) أن يفوز بها أي منهما. أعيدوا للكرة سحرها ورونقها وجمالها وروحها الرياضية الحقّة ولا تجعلوها بدلاً من ضائع.