عجّ المركز الثقافي الروسي في بيروت مساء أول من أمس بجمهور كبير كان في انتظار بدء حفلة زياد الرحباني التي حملت عنوان «ما العمل؟!». وعلى رغم أخباره غير السارة عن هجرته المفترضة إلى روسيا وخلافاته مع والدته السيدة فيروز التي تصدّرت عناوين الصحف والأخبار، ما زال محبو زياد كما كانوا: يتهافتون إلى حفلاته وحتى إن لم يكن هناك أماكن شاغرة للجلوس، يمضون الأمسية واقفين مستمتعين ب «زيادهم». بدأ الحاضرون يتهافتون إلى المسرح الذي جمع اليساريين واليمينيين – بالمعنى «السابق» للسياسة اللبنانية، ويتدافعون كأن مقاعدهم المحجوزة ستركض هاربة من ثقل أوزانهم. وعندما امتلأت القاعة، كانت أحاديث الرجال والنساء تهدر كطنين الدبابير، منها عن البولشفية واليسار وستالين ولينين والشيوعية والإمبريالية وكارل ماركس. لكن ربما أن أكثر هؤلاء يجهلون معاني هذه الكلمات التي رددها زياد في كل ما كتب من مسرحيات وبرامج وأغنيات وعبر إطلالاته القليلة. فهل كل من يسمع زياد ويدعي أنه من المعجبين بفكره يفهم ما يقوله الرجل؟ وهل حب زياد ناجم عن تفوهه بكلمات نافرة غير مألوفة في مجتمعنا؟ ولماذا كل ذنوب زياد مبررة ومغفورة لدى جمهوره؟ بالعودة إلى الحفلة، وعندما كان الجمهور ينتظر إزاحة الستار، أبى هذا الأخير أن ينزاح. وبعد «معركة» مع مسؤول المسرح استمرت دقائق كان فيها الستار مصراً على موقفه، انتُزع من مكانه بالقوة وكانت هذه آخر ليلة لوجوده بعد سنوات من «العطاء». استهلت الحفلة بالنشيد الوطني اللبناني، ثم عبّر زياد عن موقفه تجاه الأزمة الأوكرانية من خلال عضو في الفرقة تلا على المشاهدين مقطعاً مفاده أن روسيا تعلم ماذا تفعل وهي قوية بما فيه الكفاية لمواجهة كل من يريد التحدي، وأعطى أمثلة على ذلك منها الزعيم النازي أدولف هتلر الذي حاول غزو هذا البلد خلال الحرب العالمية الثانية لكنه لم يلق إلا الخيبة المريرة. بعد ذلك، بدأ زياد التنقل بين الأورغ والبيانو يعزف ألحاناً مألوفة لدى السامعين. تنوّعت فقرات الحفلة بين الأغاني السياسية والاجتماعية والعاطفية منها «تلفن عيّاش» و»عايشة وحدا بلاك» و»الحالة تعبانة يا ليلى» التي أداها الراحل جوزيف صقر. وفصل بين هذه الأغنيات اسكتشات طريفة أداها رضوان حمزة ولينا خوري وطارق تميم. وبعد استراحة لدقائق، عادت الفرقة إلى المسرح وعاد زياد واضعاً «بيريه» الشيوعية التقليدية، لإكمال ما تبقى من الحفلة التي علا فيها التصفيق مراراً وتكراراً. عزف الشيوعي الدائم أغنيات لفيروز منها «صباح ومسا» و «بتذكرك بالخريف»، وكان تفاعل الجمهور مع هاتين الأغنيتين مذهلاً كأنه أراد أن يسمعهما من السيدة – الأم التي كانت علاقتها دوماً متقلبة مع ابنها. وبعد انتهاء الأغنيات التي لم يشبع الحاضرون من الاستماع إليها وطالبوه بمزيد، قدم ثلاثة من أعضاء الفرقة «زجلاً» على طريقة زياد المضحكة. فحتى هو نفسه أمضى معظم الوقت يضحك مع الجمهور على الكلمات التي شكّلت سجعاً طريفاً، أبعد وإن قليلاً الهموم عن القلوب. شهرة زياد تكمن في موسيقاه ومسرحه الذي استوحى قصصه من المجتمع الذي يعيش فيه. فمن «سهرية» مروراً ب «نزل السرور» و»فيلم أميركي طويل» وصولاً إلى «شي فاشل» و»بالنسبة لبكرا شو»، كانت الشخصيات كلها مع مشكلاتها الاجتماعية خصوصاً بعد الحرب الأهلية اللبنانية التي أدّت إلى انقسام الطوائف، متجسدّة في هذه المسرحيات التي عبّر فيها زياد عن الحال التي وصل إليها لبنان. والتقدير الذي حظي به كان لفنه، لا لآرائه السياسية ولا لسيرته الشخصية ولا لتصرفاته وسلوكياته التي تثير الجدل. وعلى رغم أن لزياد جمهوراً كبيراً جداً، فإن ذنوب هذا اليساري بعقله وجسده (هو أعسر طبعاً) ليست كلها مغفورة. فله أعداء كثر ينقمون عليه وعلى تفكيره وآرائه السياسية خصوصاً. فهو، وفقاً لهؤلاء، يؤيد الروس الذين يؤيدون الإيرانيين الذين يدعمون السوريين الذين جعلوا من لبنان ساحة لمعاركهم الخاصة. ولكن هذا هو زياد عاصي الرحباني بفنه وفكره... علامة فارقة لا إجماع حولها... ولكن أليس أفضل أن يكون المرء نابغاً وله أعداء، من أن يكون تافهاً وله أعداء؟