في عام 1993 طُرحت دراسة خطيرة ومثيرة للجدال، وهي تكشف للمرة الاولى عن نية الولاياتالمتحدة التعامل مع العراق بطريقة جديدة تختلف جذرياً عن التعامل الغربي، البريطاني تحديداً، والذي تمثل في المساعدة على بناء دولة الوكالة في العراق في بداية القرن العشرين. كان كاتب الدراسة، غراهام فولر، وهو أحد المحللين في المخابرات المركزية الاميركية وجزءاً من معهد دراسات الدفاع القومي التابع لمؤسسة راند الشهيرة والتي تتمتع بعلاقة خاصة جداً مع البنتاغون. وكان عنوان الدراسة: «العراق في العقد المقبل: هل يصمد العراق حتى عام 2002؟». وعلى رغم أنها نشرت بترجمة بائسة في احد مراكز البحوث العربية، الا أنها لم تأخذ حجم الاهتمام المطلوب، على رغم أن فولر كان مستميتاً في دعوة الآخرين، وتركيزاً المعارضة العراقية التابعة لأميركا، الى النقاش حولها ومحاولة اقناعهم بتبني مفاهيمها الاساسية لتكون مرشداً للحكم الجديد المراد تحقيقه. كان صلب مفاهيم فولر يتركز حول النقاط الثلاث التالية (بعد أن ابتدع مسألة المكونات الثلاثة للمجتمع العراقي المعاصر! وهي: السنّة - الشيعة - الكرد): يجب الاعتناء بالسنّة لأنهم بناة الدولة الاولى ولا يتحملون أوزار ديكتاتورية صدام حسين. الاهتمام بمظلومية الشيعة لا بد من أن ينطلق من خلال الشرائح المستنيرة، ومنهم رند الرحيم فرانكي وعلي علاوي ومنظّر المجموعة كنعان مكية، ومن الشيعة العلمانيين، للوقوف بوجه تيارين في الشيعة يهددان التغيير المنشود: الأول الشيعي الطائفي المرتبط مع حكومة الملالي في طهران، والثاني التيار العروبي الذي يحن إلى علاقة العراق مع محيطه العربي. طارت معظم هذه المفاهيم مع رياح الصراعات الداخلية ضمن التيارات المتنافسة للمعارضة العراقية وأشرفت مكونات الكراس على الغرق في بحر النسيان. فضلاً عن ذلك، فإن ظروف ادارة كلينتون «الليبرالية» لم تسمح لها بالسير في المشروع وإنما تشريع ذلك العمل والمساعدة على احتضان افكاره الجوهرية. وقد طرحت كل الآليات في السياق العملي ما عدا الانقلاب العسكري ومستلزمات نجاحه الحاسم. ويبدو ان فولر يعلم اكثر من غيره أجواء إخفاق الانقلاب العسكري وفضّل الابتعاد بعد أن أصيب بالاحباط والكآبة. الغرض من هذا الكلام هو الغواية التي تتفشى في عقول هذه المراكز التحليلية حول مستقبل العراق. فقبل أيام عقد المؤتمر السنوي لمعهد الشرق الأوسط ومن خلاله نوقش الوضع العراقي واستمع الحضور الى شهادة إثنين من الذين كانوا جزءاً من مشروع مستقبل العراق، والذي وضع في 2002 من جانب وزارة الخارجية الاميركية، وهما علي علاوي وزير الدفاع بعد الاحتلال ورند رحيم فرانكي أول سفير للعراق في اميركا بعد الاحتلال. ويمكن القول ان شهادتيهما كانتا متطابقتين مع رؤية فولر والتي دفنت مع بول بريمر وتحوله إلى آفة مستوطنة العملية السياسية التي يقودها الاحتلال العالمي بالتعاون مع النفوذ الايراني. وإذا كانت المداخلات التي صدرت عن بعض المنخرطين فعلياً في المشروع العراقي تجامل ادارة اوباما الحالية ومنهم جيمس دوبينز المتفرغ في مؤسسة راند، فإن مايكل كوربن الوكيل المساعد لمكتب شؤون الشرق الأدنى في وزارة الخارجية الاميركية، قد تحدث جلياً، وهو مصاب بكل أعراض بريمر القاتلة للعراق الجديد، معتبراً أن «السنّة» مشاركون بحماسة ولكنهم منقسمون، و «الكرد» يخطون بثبات طريق الاندماج في العراق الدستوري، و «الشيعة» أصبحوا يتحدثون علناً عن مخاطر الطائفية وضرورة بنا عراق وطني! أوراق الشاي التي تهرب من زوايا عدة تدحض كل آمال كوربن. ففي موسكو في الاسبوع نفسه عقد بابكر خوشوي ممثل حكومة اقليم كردستان في روسيا مؤتمراً صحافياً أعلن فيه أن مسألة الانفصال قضية وقت فقط! وأن كل المعدّات جاهزة لتحقيق هذا الهدف. أما عضو مجلس الرئاسة طارق الهاشمي، ممثل «السنّة»، فقد رفض التوقيع على قانون تعديل قانون الانتخابات لأنه لا يهتم بأربعة ملايين مهجر في الخارج ومعظمهم من «السنّة»! أما «الشيعة» الذين يتحدثون عن الوطنية، فهم الآن في حالة من الضياع، وقد حاول رئيس مجلس الشورى الايراني علي لاريجاني في زيارته الاخيرة أن يجمع شتاتهم، اتضح ذلك من خلال صرخات خطيب جامع براثا جلال الصغير الذي نادى في خطبته قبل أيام بأن «الأصل هو ان نتوحد لأننا اذا دخلنا متفرقين، فليس من المعلوم ان الأمور ستبقى على طبيعتها حينما تنتهي الانتخابات». لكن مايكل كوربن مصرّ على التعامل مع نقاط التفجير العراقية بهذه السذاجة المفتعلة والخفة في مواجهة عقابيلها. فهو يقول إن رجوع المالكي إلى قائمة الائتلاف الشيعية علامة سلبية في الصورة العامة، وأن مسألة كركوك يجب أن تحل ضمن مباحثات جماعية وألاّ تؤثر في مناخ الانتخابات المقبلة وأن دول الجوار يجب أن تساعد العراقيين في الصمود إلى عام 2020! بعدما قررت اميركا الموافقة على بقاء فرق الإعمار في المحافظات العراقية الى السنة المذكورة. ها نحن قد عدنا إلى «مفاهيم» العقود في التحليل والتوقعات. وكم كان جريئاً جيمس دوبينز حين علّق على إحدى خصائص الشخصية السياسية العراقية «المركزية» حين قال إن التنافس في العراق يؤدي إلى تنافر سياسي حاد ولا توجد في البلد ثقافة «الخسارة السياسية» ودورها في ترسيخ الامور وتصليد العملية السياسية وتوسيع هوامش نشاطات المجتمع الأهلي. ومن خلاصة المداخلات التي عرضت باقتضاب شديد في الصحافة الاميركية نستشعر أن الخط العام للمقاربات في المعهد لا يخرج عن إطار بقاء العراق دولة «فاشلة» وأن بقاء اميركا إلى سنة 2020 ضروري في هذه المرحلة الانتقالية! لكن، هل المرحلة الانتقالية تخص العراق فقط أم أن لها صلة بالوضع الاميركي؟ يجوز لنا من دون مبالغة أن نستشهد بكلام جيمس بيكر أثناء مطالعته في الدفاع عن تقريره الشهير في جامعة رايس وبإشراف الديبلوماسي الخبير ادوارد دجيرجيان: «إن ظهور أي نية احتلال اميركي دائم للعراق سيؤدي إلى القول ان لدينا مخططاً امبريالياً في الشرق الاوسط». كان جورج اورويل قد علّق سابقاً على مثل هذه الامور: «نحن كلنا قادرون على تصديق أشياء نعرف أنها غير صحيحة»! * سياسي وكاتب عراقي.