للوهلة الأولى، لم يكن في مقدور قرّاء كتب فولتير المعجبين، ان يصدقوا حين قرأوا النص الذي أصدره عام 1767 في عنوان «الرجل ذو الأربعين ايكو»، ان هذا النص هو، حقاً، من كتابة نجمهم الفكري والأدبي الكبير، وقد بات في قمة نضجه وتجاوز الثانية والسبعين من عمره... لكن هذا لم يكن سوى للوهلة الأولى، وبالنسبة الى قراء كانوا يتوقعون من فولتير، وكعادته ان يدخل موضوعه في شكل مباشر محدداً ما اذا كان النص الذي يقدمه، رواية أو مسرحية أو كتاباً فلسفياً أو اقتصادياً، لا أن يفعل كما هو فاعل الآن: يكتب نصاً ضائعاً حائراً بين الأنواع، يبدو رواية ثم يستنكف، وكتاباً في الفكر ثم يبتعد، ومسرحية ممكنة ثم يتخلف عن ذلك. بعد ذلك وحين صار «الرجل ذي الأربعين ايكو»، معروفاً ومقروءاً على نطاق واسع، تمكن القراء من ان يتعرفوا في كاتبه على صاحب «كانديد» وغيرها من الأعمال الفولتيرية التي كانت كالدمية الروسية تحمل طبقة فوق طبقة بحيث ان التعرف عليها يحتاج صبراً وتأنياً منذ البداية. وطبعاً لن نقول هنا ان هذا الكتاب كان، أو سيعتبر لاحقاً، من كتب فولتير المهمة، بل إن كثراً من دارسي صاحب «القاموس الفلسفي» و «زاديغ» وملهم عصر الأنوار الفرنسي، سيرون ان هذا الكتاب أضعف، أسلوبياً، من ان يكون فولتيرياً، بيد ان هذا لا يمنع النص من ان يبدو، في نهاية الأمر، جامعاً لأفكار فولتير، في المجتمع والسياسة والاقتصاد والموقف من الكنيسة والدولة، مبسطاً إياها في شكل يجعلها في متناول المواطن العادي. من هنا، إذا كان الكتاب لم يحظ، لدى ظهوره بإعجاب النقاد والمفكرين والدارسين، فإنه انتشر شعبياً، لأن أنصاف المثقفين، كي لا نقول العامة في هذا السياق، وجدته يجيب على تطلعات متفرقة كانت تشغل بالها، لكنها لا تعرف كيف تعبّر عنها مجتمعة... فجمعها فولتير في نص واحد. يدور النص، الذي يبدو ظاهرياً على الأقل، على شكل رواية - أو حكاية بالمعنى الأدق للكلمة - حول بطله الذي يقدم إلينا هنا بصفته المواطن الفرنسي المتوسط، الذي لا هو - مبدئياً - بالفقير ولا هو بالغني. إنه متوسط الحال، خصوصاً ان مدخوله الشهري لا يقل عن 40 إيكو (وهو مبلغ كان يعتبر جيداً في ذلك الحين، علماً بأن الإيكو هو اسم العملة الفرنسية خلال القرن الثامن عشر الذي تدور فيه الأحداث، وكان الاسم الذي كاد يعتمد أول القرن الواحد والعشرين للعملة الأوروبية الموحدة قبل اعتماد «اليورو» بصورة نهائية). لكن وضع هذا المواطن ويطلق عليه فولتير اسم اندريه، ليس على مثل هذا اليسر، ذلك ان مصلحة الضرائب تقتطع من مدخوله 12 إيكو في كل شهر، ضريبة على أملاكه البسيطة التي توفر له المرتب الشهري المذكور. وبهذا تهبط مصلحة الضرائب بصاحبنا، في شكل مباشر من وضعية الطبقة الوسطى الى وضعية أقرب الى الطبقة الدنيا... وكأن هذا لا يكفيه هو الذي لا يكف عن الشكوى شهراً بعد شهر، إذ ها هي السلطات الإجرائية الشرعية التي تعتبر نفسها شريكة في كل أرض ومال ومدخول، ها هي لمناسبة الخسائر التي تكبدها البلد في حرب خاضها اخيراً، تقتطع من صاحبنا عشرين إيكو إضافية. وهنا إذ لم يعد في وسعه ان يسدد ما هو مطلوب منه مهما حاول، يرمى اندريه في السجن بدم بارد، كي يفي بتعداد أيام سجنه ما هو مترتب عليه. بعد حين تكون ايام السجن كَفَت ل «تسديد الدين» فيطلق سراح اندريه وهو، بعد، ذاهل مما حدث له. ويكون اندريه في وسط ذهوله، حين يحدث له، في شكل غير متوقع، ان يلتقي برجل من الأعيان يعلمه بسرعة انه يملك، نقداً وعدّاً، ما لا يقل عن مليون إيكو، ومع هذا فإن هذا الرجل، وكما يخبر أندريه بنفسه، لا يدفع اية ضرائب ولا يساهم في اي مجهود حربي سابق أو لاحق... يزداد ذهول صاحبنا وتستبد به سلسلة من اسئلة حائرة، يضرب في سبيل الحصول على إجابات عليها، كل أنواع الأسداس بكل أنواع الأخماس، لكنه لا يصل الى اي نتيجة، فيقرر لحظتذاك ان يستعين بمن يتوسم لديه خبرة ومعرفة بمثل هذه الأمور المستعصية. ومن هنا يلجأ أول ما يلجأ الى عالم رياضيات ضليع يتبرع بشرح الأمور له... وبالفعل خلال جلسات عديدة يقوم العالم باستخدام كل معارفه وقدرته على الإقناع كي يشرح لأندريه أنواع الضرائب وتراتبيتها في كل بلد من بلدان عديدة يعرف الكثير عنها. ويتشعب الشرح ويطول الى درجة ان اندريه يزداد ذهولاً وفضولاً، ويقرر بعدما فرغ من تلقي الدروس والشروح لدى العالم، يقرر ان يلجأ الى مزارع خبير بشؤون زراعته وكلفتها ومردودها، لعله يفهمه الوضع الضريبي من وجهة نظره الزراعية الخاصة. وهكذا تظهر نقاشات وشروحات جديدة مسهبة وشديدة التخصص، يخرج منها اندريه وقد زاد ارتباكه واختلاط الأمور في ذهنه... لكنه في الوقت نفسه يكون ازداد فضولاً... و - هذه المرة - شغفاً بالمعرفة والعلم، فهو، حتى وإن كان عجز عن فهم حالته الضرائبية الخاصة، اكتشف على الأقل ان في إمكانه ان يكتسب الآن معارف ومعلومات، لم يكن له شأن بها من قبل. وهنا، إذ يزداد تطلعه الى المعرفة يجد نفسه امام مشكلات جديدة وأسئلة حائرة اضافية تتعلق هذه المرة بالهيئات الكنسية، التي يجدها، بدورها، تتدخل في الشؤون الضرائبية والمالية، من دون ان يبدو عليها في ظاهر الأمور ان لها علاقة بذلك كله. ومن الهيئات الكنسية، تنتقل معارف اندريه الى مسائل قضائية وحقوقية أو من هناك، مثلاً الى البحث في عدم الجدوى من الحكم بالإعدام على اي كان. وانطلاقاً من هنا ينتقل اندريه الى فهم ضرورة ان يكون المرء متعلماً، وضرورة التعليم عموماً في حياة الأفراد والمجتمعات، وبالتالي ضرورة الكتاب، ومن ثم أهمية نشر أفكار التنوير... الخ. وهكذا، وحتى إن كان صاحبنا عجز في خضمّ ذلك كله عن فهم الكيفية التي بها يخسر مدخوله، شهراً بعد شهر، والسبب الذي يجعل ايام سجنه تسدد ديونه للسلطات، فإنه يكتسب من المعرفة والعلم وربما حتى من الخبرة في الأمور، ما يجعله مثقفاً الى حد ما، ومتميزاً عن الكثير ممن يعرفهم. وإذ يجد نفسه ذات لحظة وارثاً لمبلغ ما، يتجه الآن نحو تحسين اوضاعه، منفقاً بعض ما ورث على تكوين مكتبة صغيرة خاصة به، مليئة بالدراسات والكتب. ويحوله هذا كله من المواطن البسيط اندريه الى «السيد اندريه» الذي بتنا الآن نراه في المطاعم الفاخرة، وفي مجالس السادة، انيقاً رشيقاً متكلماً ومستمعاً. وكل هذا يحدث بالتزامن مع المعجزة التي، نراه لا يفهم حتى الآن سرها، على رغم كل ثقافته وخبرته: إنه الآن لا يدفع اي ضرائب، صار تماماً مثل صاحبه الغني مالك المليون إيكو. لكنه الآن وبدلاً من ان يسعى الى كشف اللغز، يفضّل السكوت عنه. ماله ومال وجع الرأس. لقد حُلّت مشكلته ولو متأخرة. فليسع الآخرون من المواطنين البسطاء الآن، الى حل اللغز، أما هو فيكفيه الجهد الذي بذله من دون جدوى! او بالأحرى بجدوى لم تكن متوقعة: حصوله على العلم والمعرفة بفضل ذلك التصرف الإداري الضرائبي الذي كان يعتقده أحمق، فإذا به مفيد ولو... بالمواربة. واضح ان فرانسوا ماري آرويه (فولتير)، الذي عاش بين 1694 و1778، أوصل سخريته الاجتماعية والسياسية هنا الى ذروتها، ملخصاً العديد من افكاره وأساليبه، معبّراً، في شكل مكثف عن زعامته الفكرية لتيار التنوير الذي سيكون بعد سنوات قليلة من رحيل هذا الكاتب الساخر، في خلفية الثورة الفرنسية التي ستقوم، في جزء منها على الأقل بغية حل اللغز الذي لم يتمكن مسيو اندريه من الوصول الى حل له. [email protected]