تبدو رواية الكاتبة الفرنسية كريستين أوربان «صمت الرجال» أشبه بمونولوج طويل تكشف فيه الكاتبة من خلال بطلتها النقاب عن الكثير من الهواجس الأنثوية المتّصلة بالحب واللغة والجسد وعزلة الكائن البشري. فرواية أوربان التي صدرت عن دار الحوار ونقلتها إلى العربية راغدة خوري ليست قائمة على الوقائع الصاخبة والأحداث الدراماتيكية المفاجئة ولا على تعدد الشخصيات وتعقّب مصائرها بقدر ما تقوم على استبطان الدواخل الإنسانية والوقوف على المناطق الملتبسة التي تجعل من الحب لغزاً محيّراً بالنسبة للمرأة كما للرجل على حدٍ سواء. ومع ذلك فإن صاحبة «توأم الروح» و «أحزان يوم الأحد» لا تقارب العلاقة العاطفية من زاويتها الميلودرامية أو الإعلائية المحضة بل من زاوية العلاقة بين الحب واللغة، سواء كان الإفصاح عن المكنونات يتم من طريق الجسد والملامسة الحسّية أو من طريق الكلمات التي تشكل بدورها مفتاحاً أساسياً للولوج إلى قلب المرأة وفق ما يشير إليه سياق الرواية. لا تتضمن الرواية إذاً الكثير من الأحداث ولكنها تنبني حول قصة الحب المباغتة التي تقوم بين بطلة الرواية «أديل» وبين بطلها «جان» اللذين يلتقيان صدفة في حديقة مارسيل بروست في باريس. ومع أن أحداً منهما لا يكلم الآخر فإن أديل التي تدور الأحداث على لسانها تشعر منذ اللحظة الأولى بأن تعارفاً من نوع ما قد تمّ بين الطرفين بما يشبه الحب من النظرة الأولى، وأن المجهول الذي وجدته أمامها بدا مألوفاً بما يكفي ليصبح نوعاً من القدر الذي توارى على حين غرّة ثم عاود الظهور بعد سنوات ثلاث في أحد المعارض التشكيلية. وإذ كان يمكن لأي شخصين مماثلين أن يؤول لقاؤهما اليتيم إلى النسيان فإن أديل وجان يشعران بأنهما يكملان جلسة الحديقة ويدخلان بعد التعارف في علاقة عاطفية سريعة ومشبوبة. لكن ما تكتشفه المرأة منذ لحظات العلاقة الأولى هو أن بطلها العاشق لا يتكلم إلا لماماً وفي فترات متباعدة، وإذا تكلم فإن ما يتلفظ به لا يتعدى حدود الجملة الخاطفة أو أشباه الجمل، ثم يعود بها إلى الصمت المطبق. هو لم يكن أبكم بالطبع، وإلا لما استطاع أن يردد ما ردده من كلمات. ولكن الأمر كان سيصبح مفهوماً على الأقل لو كان كذلك، أما أن يكتفي حتى في أوج العلاقة بالصمت أو الغمغمة المبهمة أو التعبير الجسدي المجرد فذلك ما أوقع المرأة في حيرة مقلقة وجعلها فريسة للكثير من التأويلات التي لا يملك أحدها إجابة شافية. فهل صمت الرجل ناجم عن عيٍّ في اللسان، أم عن عقدة نقص ثقافية أو معرفية، أم عن رغبة في التخفّي والتقنع بالغموض، أم عن إكتفاء بالتعبير الجسدي ناجم عن الإشتهاء المجرد في غياب الحب؟ صحيح أن جزراً من الصمت يجب أن تسود بين العاشقين لكي لا تفسد الثرثرة جمالية المشاعر في الكثير من الأحيان، ولكن ما يتم داخل العلاقة يتجاوز ذلك ليصبح أخرس مطلقاً ومتاهة حقيقية من الشكوك والأسئلة المؤرقة. وإذ كانت أديل تطرح على جان في البداية الكثير من الأسئلة والاستيضاحات فإن عدوى الصمت قد انتقلت إليها بعد ذلك لتصبح متناهيةً بين الإفتنان بغموض حبيبها الصامت صمت أبي الهول وبين السقوط في براثن الوحشة والتضوُّر جوعاً إلى كلمة حب واحدة تخفف من وطأة العزلة والإنقطاع. لم يكن الحب ليغدو في غياب الكلام سوى تجديد دوري لحالة الفصام الصعبة التي عاشتها البطلة بين زيارة وأخرى لعاشقها الغريب. وللتأكيد على ذلك فقد عمدت المؤلفة إلى إستهلاك أجزاء الرواية بأرقام الزيارات المتتالية التي قام بها جان لأديل والتي ما إن بلغت الإحدى عشرة زيارة حتى كان الكيل قد طفح والقدرة على الإحتمال باتت معدومة تماماً عند المرأة التي تعترف في أحد الحوارات الداخلية مع النفس «لقد تحوّلت العلاقة إلى هوس أكثر من كونها حباً، إلى إشارات استفهام، أو إلى نوع من الحل الميتافيزيقي في مواجهة الحياة. كي ألتقي بجان كان عليّ أن أدخل في الصمت. لكن ما الذي كنت أعرفه من هذا الصمت المفرط؟ لا شيء». على أن هذا الصمت «القاتل» أتاح للبطلة أن تدخل إلى أعماق كينونتها الإنسانية بحثاً عن المعنى الذي يقف وراءه والذي يلبس بدوره أقنعة عدة لا ينكشف بعضها إلا ليجدد نفسه في صورة أخرى. وكان لا بد في النهاية أن ينفد الصبر وينقطع الإتصال حتى إذا جاء البطل للمرة الثانية عشرة وجد أمامه باباً محكم الإغلاق، حيث كانت المرأة رغم نداءات جسدها الظامئ غير قادرة بعد على الذهاب في اللعبة إلى المزيد من التورط المؤلم. قد يكون موضوع رواية «صمت الرجال» شائعاً ومألوفاً سواء في واقع العلاقات بين النساء والرجال أو في التعبير الأدبي نفسه ومع ذلك فإن كريستين أوريان تنجح في تحويله إلى رواية ممتعة وخفيفة الوطأة على القارئ رغم أنها تجنح مرات إلى ما يشبه التقصي النفسي أو البحث السوسيولوجي والفلسفي للوصول إلى حقيقة أو يقين. لكن الملاحظة التي يصعب إغفالها في نهاية هذه القراءة تتعلق بالترجمة والأخطاء التي كان يجب تلافيها، حتى في جانبها المطبعي. إضافة إلى أن التعريف بالكاتبة بدا باهتاً وسريعاً وغير مقنع، وكذلك الأمر بالنسبة إلى خلو الرواية نفسها من أي تقديم ولو موجز يضع القارئ في مناخها أو يبين موقعها من تجربة كريستين أوربان الروائية والإبداعية.