يقول سقراط «تكلم حتى أراك»، في إشارة إلى أن المظهر الخارجي لا يعكس أفكار الإنسان أو أخلاقه. غير أن الوضع السياسي في العالم فرض أنماطاً قديمة متجددة في علاقة المظهر الخارجي بآراء الشخص وميوله ونظرته إلى المستقبل. منع زين العابدين بن علي طيلة فترة حكمه في تونس ما أطلق عليه تسمية «اللباس الطائفي» والذي عرّفه نظامه بالقميص الأفغاني وإطالة اللحية بالنسبة الى الرجل والحجاب والنقاب بالنسبة الى المرأة. وقد نجح هذا النظام باستعمال عصا البوليس في خلق «فوبيا اللباس الإسلامي» بحيث ينعت كل من يرتديه بالإرهابي ويكون مجبراً على زيارة أقبية وزارة الداخلية لإثبات تهمة جناها عليه اختياره لمظهره. وينظر التونسيون إلى المنتقبات اللاتي تضاعفت أعدادهن إبان ثورة 14 كانون الثاني (يناير) 2011 بفضول شديد، حتى أن البعض لا يتوانى عن التقاط صور لهن بشكل سري وسط وشوشات تتجاهلها المعنية بالأمر والتي تتأبط عادة ذراع مرافقها ذي «اللباس الإسلامي» أيضاً واللحية الطويلة والشعر الكثيف بثقة، فخروجها من دون «محرم» لا يجوز شرعاً بحسب رأيها. ولم يقتصر تغيير المظهر بعد الثورة على «الإسلاميين»، فإطالة اللحية وعدم حلق الشعر هي سلوكات ميزت أيضاً من يعرفون ب «شباب الثورة اليساريين». المظهر المهمل مع شعر طويل ومجعد، بنطلون جينز قديم وحذاء رياضي وشال فلسطيني، هي أشياء تخبرك بأن محدثك يساري، شيوعي أو ما شابه. سيحدثك صاحب هذه الطلة حتما عن ماركس ولينين وعن أن الوقت حان لتخليص البروليتاريا المعدمة من شراك أصحاب رؤوس الأموال. ويتندر تونسيون بمشاركة صور على المواقع الاجتماعية تقارن بين لحية الإسلامي ولحية اليساري. معارك كثيرة خاضها التونسيون بعد الثورة كان محورها «المظهر الخارجي». فبين مضايقات تعرض لها بعض المنتقبات بمنعهن من مزاولة دراستهن الجامعية، وحملات تشهير بفتيات اتهمن بارتداء ملابس «خليعة منافية للحياء»، وجد التونسيون أنفسهم أمام امتحان صعب موضوعه احترام حرية الآخر وعدم اعتبار مظهره الخارجي تهديداً لأصالة المجتمع أو حداثته. ومسألة التهديد أخذت أبعاداً دينية واجتماعية وأمنية أيضاً، ففي حين ترى مجموعة من التونسيين أن اللباس الشرعي بالنسبة الى المرأة والرجل يحمل تهديداً إرهابياً، يرى آخرون أن اللباس الغربي يهدد هوية تونس العربية المسلمة ويجر أبناءها نحو الانحلال والفساد. ولا يفوت بعض المدافعين عن هذه النظرية أو تلك التأكيد أن للحرية الشخصية حدوداً وأن التونسي مطالب بالتفاعل مع محيطه ومع النمط المجتمعي السائد منذ الحقبة البورقيبية. سقط تونسيون كثر في اختبار «حرية المعتقد واللباس». الفكر السائد الذي يعبر عنه أصحابه في وسائل الإعلام وفي مواقع التواصل الاجتماعي تميز بروح التنافر والتنابذ والرفض والاحتقار للآخر. التنافر عززه صراع سياسي بين حزب حركة «النهضة الإسلامي» الذي اعتمد على تخويف أنصاره مما يحمله اليسار من أفكار اشتراكية تدفع نحو الإلحاد ونبذ الدين وبين أحزاب يسارية حذرت من حمل ذوي اللباس الإسلامي أفكاراً طائفية تترجم إلى أعمال إجرامية إرهابية. وبين هذا وذاك نجح حزب «نداء تونس» الذي يدّعي الوسطية والاعتدال في الاستفادة من هذا الصراع بتقديمه خطاباً يدعي ضرورة قبول الآخر والتحاور معه من دون حكم على النوايا. رسائل الطمأنة هذه التي تنباها حزب «نداء تونس» لم تنجح في إخفاء تذمر أنصاره عشية فوزه في الانتخابات من أصحاب اللباس الإسلامي أو اللوك اليساري منادين بإقصاء كل من تخول له نفسه محاولة تغيير نمط لباسهم الأوروبي. أصبح من المحتمل اليوم أن تكتشف أفكار التونسيين ورؤاهم، نسبياً، من خلال مظهرهم الخارجي، غير أنه أصبح من الصعب أن تفلح في كشف مار وراء ما يقولونه. فبانتشار الخطاب السياسي المغلف بأقنعة تحتمها الظروف المتغيرة وتفرضها لعبة تقاسم الأدوار والمناصب، لم يتبق للتونسي المهتم بفهم ما يدور من حوله، سوى «الحيرة» في تفسير ما يشاهده من مظاهر جديدة وما يسمعه من خطابات تضمر عكس ما تظهر.