عزَّزت زيارة الرئيس بشار الأسد لباريس القواسم المشتركة بين سورية وفرنسا، على مستوى العلاقات الثنائية وبعض الملفات السياسية، خصوصاً الملف اللبناني الذي شكل مدخل تطبيع العلاقة، بعد مرحلة جمود منذ 2005. ولم يكن متوقعاً حصول اختراق استثنائي في الملفات الخلافية، خصوصًا الملف الإيراني وملف السلام على المسار السوري. لكن حصيلة الزيارة، في حسابات الديبلوماسية السورية، تفوق بكثير ما أمكن التفاهم عليه بين الرئيسين الأسد ونيكولا ساركوزي، رغم الملفات التي اعترف الجانبان بوجود تباين وخلاف حولها. بل ربما بفعل هذا التباين الذي عرفت الديبلوماسية السورية كيفية الاستفادة منه في هذه المرحلة. من الواضح أن الشهور المقبلة هي فترة الوقت الضائع في التحرك الأميركي ازاء عملية السلام، بما فيها المسار الفلسطيني. وهي فترة تأتي بعد تعثر للانطلاقة الأميركية الأولى التي، رغم ما بذلته إدارة اوباما من جهود وزيارات مكوكية في المنطقة، لم تنجح في استعادة المفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية. واذ ساهم التصلب والتشدد الإسرائيليين في هذا الفشل، فإن التحرك الاميركي تضمن في ذاته أسباب تعثره. سواء بحصر مفاوضات المسار الفلسطيني في قضية الاستيطان، او إهمال المسار السوري، بعدما اوقفت دمشق المفاوضات غير المباشرة مع إسرائيل عبر تركيا. وفي تشديد الرئيس الأسد على الدور التركي في استعادة المسار السوري، مع صعوبات هذا الدور حالياً في ظل تعنت نتانياهو وتردي العلاقة التركية - الإسرائيلية، رسالة الى الرئيس الفرنسي الطامح الى شغل دور جديد لفرنسا، ومعها أوروبا، في عملية السلام. فالعودة الى الدور التركي، مع استبعاد وسيط آخر، يعني إشغال الوقت الاميركي الضائع في انتظار نضج مبادرة واضحة لواشنطن ازاء سورية ومسار مفاوضاتها مع اسرائيل. وهذا يعني إعادة الاعتبار للمسار السوري، ديبلوماسياً على الأقل، بعد تراجع في ظل المقاربة الأميركية الحالية للحل في المنطقة. وليس صدفة أن يركز الرئيس الأسد على هذه المسألة، وفي باريس. فهو استقطب بذلك الاهتمام وأعاد الى الواجهة المسار السوري، بعد انحسار. فسجل بذلك نقطة قيّمة لديبلوماسية بلاده، من دون ان يقطع حبل التواصل مع المضيف الذي كان يرغب في أن يوافق الأسد على عرض نتانياهو استعادة المفاوضات بلا شروط، الأمر الذي ردَّ عليه الرئيس السوري بأن المسألة تتعلق بحقوق وليس بشروط. ليثبت فكرة أن المفاوضات تعني كيفية التوصل الى هذه الحقوق وليس التفاوض في شأنها. فحافظ بذلك على الثوابت السورية، وعلى مكتسبات التطبيع مع باريس معاً... في انتظار ان تحزم الإدارة الأميركية أمرها وتطرح تصورها للحل في المنطقة. اذ يبقى أي حل معلقاً من دون الضمانات والرعاية الأميركية، سواء بدأت مقدماته بوساطة تركية أو لا. في الوقت ذاته، ورغم التعارض الكبير بين باريس وطهران، الحليف الاستراتيجي لدمشق، حول الملف النووي الإيراني، ورغم التباين في وجهات النظر الذي ظهر في محادثات الأسد وساركوزي في هذا الشأن، تمكنت الديبلوماسية السورية من تفادي الوقوع في مطب التصلب دفاعاً عن طهران، او الليونة الزائدة مجاملة لفرنسا. لتقدم تصوراً جديداً، وتظهر كمعنية، وربما كوسيط، في هذا الملف. وذلك مع الاعتبار أن لدمشق ملفاً نووياً لدى الوكالة الدولية للطاقة النووية، وأن الدول الكبرى (مجموعة 5+1) منخرطة في مفاوضات صعبة مع طهران. وهكذا تسجل حضوراً، خصوصًا في الساحة الأوروبية، في هذا الموضوع النووي الذي قد يكون عليها لاحقاً أن ترد على اتهامات غربية، صحيحة او مفتعلة، تتعلق ببرنامجها الخاص.