قضية الإصلاح واحدة من القضايا التي شغلت العالمين العربي والإسلامي منذ أكثر من قرن تقريباً، وما زالت تفرض نفسها في كل حوار عن الراهن من الحياة والمنتظر من المستقبل. وعلى رغم كثرة ما كتب عن القضية فإن تعريفاً متفقاً عليه يبدو أمراً متعذراً، إذ ثمة جذر يجب البحث عنه قبل الخوض في مضمون التعريف ومبتغاه، فهل الجذر ليبرالي أم إسلامي أم علماني أم توفيقي بين هذا وذاك؟ والجذر هنا هو الأساس في التعريف كما هو الأساس في المبتغى. في مؤتمر عقد أخيراً في القاهرة نظمه كل من مركز الدراسات الحضارية وحوار الثقافات في جامعة القاهرة ومجلة «حراء» التركية التي تصدر بالعربية، ووقف «أكاديمية العلوم والانترنت» في اسطنبول، وكان عنوانه مستقبل الإصلاح في العالم الإسلامي ... خبرات مقارنة مع «حركة فتح الله كولن» التركية، برزت أهمية النظر إلى ما يدور في محيط العالم العربي الاوسع، أو لنقل العالم الإسلامي، ليس من منظور السياسة الضيق المرتبط بأحداث يومية وتطلعات وأدوار وطنية ومحلية ضيقة غالباً ومتقلبة دائماً، بل من منظور أكثر رحابة يتعلق بآلية التغيير في المجتمع سواء المحلي أو العالمي، ودور الدين الإسلامي في إحداث هذا التغيير الذي يحقق إشباعاً روحياً أخروياً ودنيوياً مادياً في آن واحد. فالدين هنا كما هو إيمان وعقيدة فهو أيضاً رؤية للذات سواء الفرد أو الجماعة. الهدف الذي كان يبتغيه المؤتمر هو تقديم تجربة «حركة فتح الله كولن»، ذلك الشيخ الصوفي العالم، صاحب الشعبية الجارفة بين محبيه وأتباعه، إلى العالم العربي، ليس لكي ينسخها كما هي، فذلك مما لا يمكن تصوره ولا يمكن الدعوة إليه بحسب قول السيد مصطفى أوزغان مستشار وقف «أكاديمية العلوم والانترنت» والرجل القوي في «حركة فتح الله كولن»، وإنما التعرف على ما فعلته تلك الحركة في المجتمع التركي عبر خمسين عاماً. لعل في ذلك ما يعين إصلاحيي العرب على التأمل في واقعهم بقدر من الجدية والحزم. ليس الهدف من هذا المقال سرد ما جاء في الأوراق والمداخلات، فهذا يتطلب موضعاً آخر، وإنما تقديم شهادة ذاتية للكاتب أو لنقل جملة من المقولات والأفكار حول المرئي من «حركة فتح الله كولن»، من واقع زيارات عدة إلى تركيا في السنوات العشر الماضية، كان آخرها في حزيران (يونيو) الماضي، فضلاً عن عدد من الاحتكاكات الفكرية والإنسانية مع بعض أعضاء هذه الحركة سواء في القاهرة أو في أسطنبول وأنقرة وبورصة. والحق أن من اعتاد السفر إلى تركيا قبل السنوات الخمس الماضية يدرك إلى أي حد تغيرت هذه البلاد في سلوكها الجماعي الاجتماعي والديني. فمن كان يُصدم بصور كبيرة الحجم منافية للذوق والقيم الشرقية في مطار أسطنبول سابقاً، يجد أن الأمر عولج من منظور محافظ يراعي القيم الدينية التي باتت غالبة في الشارع كما في الممارسة اليومية. ولا يمكن القول هنا إن تلك بدورها نتيجة مباشرة لحركة كولن وحسب، فهناك حركات دينية وصوفية أخرى كثيرة لعبت الدور نفسه، وانما لأن المجتمع أخذ يعود إلى هويته الراسخة تاريخياً ووجدانياً، والتي لم يؤثر فيها تراث الاتاتوركية الإقصائية للدين التي استمرت ثمانية عقود، والتي هي الآن مُحاصرة وآخذة في الأفول. وعن «حركة كولن» يمكن القول إنها تبدو كتنظيم وفي الوقت نفسه لا تنظيم. فمن شروط التنظيم الانضباط ووضوح القيادة، ومن علامات اللاتنظيم انفراط العقد وترهل القيادة، بل وغيابها. في «حركة فتح الله كولن» لا يوجد تنظيم بحسب ما رأينا، بل حركة اجتماعية تقوم على مبادئ إيمانية، نظّر لها وصاغها فتح الله كولن نفسه واقتنع بها محبوه ومريدوه والذين أصبحوا مرجع النظام العام للحركة. إذاً نحن أمام نظام متكامل فكري وسلوكي يتداخل مع درجة عالية من الانضباط ووضوح الدرجات في التعامل بين العناصر المشكلة للحركة والنظام معاً. وفي أحد الأوصاف فهي شبكة علاقات ومؤسسات متداخلة ومستقلة في آن. وفي هذا النظام الفكري السلوكي، هناك نقطة ارتكاز محورية، تتمثل في الشيخ فتح الله كولن نفسه، فهو العالم والأستاذ وصاحب الأفكار والملهم والمحبوب والشيخ الجليل، الذي تصبو إليه نفوس محبيه، يعشقون كلماته ويحترمون تعاليمه، ويعملون على هديها في الانتشار وفي الحركة سواء داخل تركيا أو خارجها. والشيخ هنا ليس شخصاً عادياً، بل هو معين متجدد من الأفكار والشروحات والالهامات الإيمانية والتربوية. جوهر الحركة في شقها السلوكي هو «الخدمة» ذلك التعبير الذي صكه الشيخ والتي تستهدف تغيير أحوال البيئة المعاشة، وهي الجامع بين القادر والمحتاج، بين صاحب المال وصاحب الحركة وصاحب الفكرة. بهذا المعنى فإن الخدمة هي نظام التفاعل بين الفرد والجماعة والحركة، هي أساس التناغم بين الفرد كأحد أعضاء الجماعة وبين الهدف الأكبر وهو إصلاح حال الأمة الإسلامية على امتداد وجودها المكاني الجغرافي، كمقدمة لإصلاح حال الإنسانية. وكل من تعرفنا اليهم في «الخدمة» يشعرون بأنهم يؤدون رسالة إيمانية بالدرجة الأولى، واجتماعية مدنية بالدرجة الثانية، وأنهم جميعاً أصحاب قدر واحد، ومن هنا حالة التضامن الشديدة بينهم. و»الخدمة» هي النظام الذي تتقاسم فيه الأدوار وتتكامل، فهناك «الأصناف أو التجار»، أو من هم مصدر المال، وهناك العمال/ أعضاء الحركة بالمعنى الرحب، والذين يوظفون هذا المال لتجسيد فكر الحركة / الجماعة في الإصلاح والتربية والتغيير. مع ملاحظة أننا شاهدنا انضباطاً وتقسيماً للعمل والأدوار وتراتبية تنظيمية لُحسن تسيير العمل، ناهيك عن سلاسة منقطعة النظير. والاهتمام الأول للحركة يكمن في تربية النفس والروح، وتقوية عزيمتها الإيمانية والرسالية. وما رأيناه من اهتمام بالتعليم، مدارس وجامعات ونظماً تربوية يعكس أهمية بناء الإنسان منذ الصغر ومن خلال مجتمع مؤمن عقيدة وملتزم سلوكاً. ولذا فالمعلم في داخل الخدمة هو الأساس. ومنظومة المدارس كالفاتح والوادي الاخضر متشعبة ومنتشرة في ربوع تركيا، ولها أسلوبها المتميز في الادارة والتربية والبنية الأساسية الراقية المتطورة. ومن خلال تلك المدارس والجامعات تعمل الحركة على إعادة بناء المجتمع بطريقة سلمية وتدريجية وتراكمية. ولذا فلا توجد تفرقة في تقديم الخدمة، كل من يطلبها يجدها حتى ولو لم يكن من القريبين من الحركة أو المؤمنين بأهدافها. وتبدي الحركة اهتماماً فائقاً بالطلاب من المناطق الفقيرة والنائية والريف خارج المدن الكبرى، من أجل مساعدتهم على إكمال تعليمهم، ومن ثم يكونون أعضاء فاعلين في نظام الخدمة. ومما سمعته أن ثمة خياراً أمام هؤلاء الخريجين، إما العمل في سلك التعليم أو العمل في مجال التجارة، أي أن يكون من الأصناف، أو الممولين للخدمة. وإحدى آليات ترسخ دور الحركة وانتشارها هي التنظيم وبناء المؤسسات، فالحركة لكي تستمر وتنمو لا بد أن تتحول إلى مؤسسات مدنية فاعلة نشطة وتقابل حياة الافراد والمجتمع في منحى تكاملي يحقق إشباعاً عقيدياً ودنيوياً في آن. وتشمل المؤسسات المناحي كافة، فمنها الثقافية كمؤسسات النشر والترجمة التي تلعب دور الجسر من أجل المعرفة والذيوع لا سيما خارج تركيا، ومن هنا الاهتمام بالترجمة إلى لغات العالم المختلفة. كما فيها مؤسسات إعلامية وصحافية وقنوات فضائية تقدم منتجاً إعلامياً ملتزماً عقيدياً ومنفتحاً على المجتمع، بمعنى تقديم بديل إعلامي ثقافي يتوافق مع فكر فتح الله كولن، يتجسد أمام المشاهد من خلال برامج تلفزيونية ومسلسلات درامية وخدمة إخبارية. فضلاً عن مجال العمل الإنساني، الذي تمثله مؤسسة «كميسي يوك ميو» أو بالعربية «هل من أحد هناك»، والتي تعمل في شؤون الإغاثة في البلدان الإسلامية وفي المناطق التي تتضرر من تقلبات الطبيعة. وفي مجال الرعاية الاجتماعية والصحية، أنشئت المؤسسات الصحية على أعلى مستوى، والخدمة هنا متاحة للقادر، مع تخصيص نسبة لغير القادرين، وتحقيق ربح يسهم في تسيير أعمال ومؤسسات الحركة الأخرى. ولكي تعمل هذه المؤسسات فلا بد من تمويل، كما لا بد من آليات لجذب الأنصار والحث على التبرع والعطاء. ففي لقاءات بين الأعضاء في الخدمة تعرف بلقاءات الهمة يتم تبادل الخبرات والرأي في الأداء والتحفيز من أجل جمع المال للمشاريع المطلوب إنجازها، أو لاستمرار المشاريع وعمل المؤسسات التي تم بناؤها. وفي أحد لقاءات الهمة في اسطنبول كان الحاضرون من التجار والمعلمين والموظفين وكتاب صحافيين ومدرب كرة شهير ورياضيين مشهورين، وجميعهم يشعر أنه في حالة إيمانية وليست دنيوية، وكلمات الشيخ وتعليماته وتوجيهاته التي أذيعت على الحاضرين كانت تضفي جواً روحانياً إيمانياً شفافاً ومتوهجاً في آن، والكل مؤمن بأن تبرعاته أو جهده البدني هو في سبيل رسالة عظيمة وهدفها الأسمى خدمة الدين والعقيدة وابتغاء مرضاة الله، وأن حدود الجهد هي الكون كله، وليس فقط تركيا، فكلما كان هناك موضع بحاجة يمكن الوصول إليه، فأبناء الحركة مستعدون لتلبية النداء، كما سمعنا من الجميع تقريباً. في حركة كولن يعد مفهوم الحوار دعامة أساسية، ليس كلقاء عابر بل كمنظومة عمل وحياة. وبما يعكس التعددية التي يحترمها الإسلام والتي هي سُنة من سنن الطبيعة التي خلقها الخالق سبحانه وتعالى من أجل النظر والتدبر والتأمل في عظمة الخالق. ومن مؤسسات الحوار هناك «مؤسسة أبانت»، ووقف الصحافيين. مع ملاحظة أن تركيا اعتادت لفترة طويلة العلمانية الإقصائية للدين، فكأن طرح الحوار كمبدأ ومأسسته هو من نوع التعامل مع العلمانية وتحييدها وصولاً إلى استيعابها في مرحلة لاحقة يحدث فيها التمكن، وهو ما نجد بشائره في المجتمع التركي الراهن. كان يلح علينا أن نعرف هل تلعب الحركة في السياسة، أو تتدخل في توجهات الناخبين، فقيل لا شأن لنا بالسياسة، نحن فقط نربي ونعلم ونتحاور ونترك الاختيار لكل فرد في الخدمة أن يصوت لمن يراه مؤمناً وملتزماً وقادراً على خدمة الوطن والدين معاً. وتلك بدورها قمة السياسة لكن بلا استفزاز. * كاتب مصري.