نشأ في الآونة الأخيرة مع تسارع إيقاع الحياة وكثرة المستجدات النازلة ما جرى تسميته بفقه «التوقع»، وهي تسمية حديثة غير معروفة في عهد السلف، وإن كان له ما يُشبهه من بعض الوجوه، فقد كان هناك من يوردون على الفقهاء المسائل المفترضة مما لم يُعهد وقوعه، وكانوا يُسمَّون بال(أرأيتيون)، وهي مأخوذة من كلمة (أرأيت) التي غالباً ما يصدَّر به سؤال افتراضي يُظهر ولع صاحبه بتكلف المسائل وتشقيقها، بأن يتخيل السائل أو الباحث وقوع حادثة على غير ما ألف الناس حدوثه. وقد ذم كثير من السلف - كالشعبي والأوزاعي والحسن البصري، وغيرهم - الأرأيتيين، الذين يكثرون من سؤال الفقيه ب: أرأيت لو حدث كذا وكذا كيف يكون الحكم؟ ونحو ذلك من الأسئلة الافتراضية، وهذه المسائل يسميها بعضهم بأغاليط المسائل؛ لأن المقصود بها تعجيز العالم وإعناته. وكان الامام مالك - رحمه الله - إذا سئل عن مسألة سأل: هل وقعت؟ فإن قيل: نعم، قال فيها بقوله، وإن قيل: لا، أمسك عن الفتيا فيها، وقال للسائل: لا تسأل حتى تقع. وعند التأمل يظهر لي أن هذا الذم واردٌ في شأن (الاستفتاء) في مسائل هي بعيدة الوقوع، مما تفترضه الأذهان وتتخيله، أما في شأن البحث والنظر والمدارسة فلا يظهر لي ذم ذلك؛ لأن العالِم لن يخرج من هذه المسائل الافتراضية بفتيا عامة يبتلي بها عامةَ الناس ويشق بها عليهم فيما لو وقعت، وقد كان لفقه الافتراض أو التوقع إثراءٌ للفقه الإسلامي؛ حيث افترض المتقدمون مسائل، فبحثوا حكمها وقاسوها بأشباهها ونظائرها، فأفاد المتأخرون من ذلك كثيراً، وهذا واقع يشهد له الفقهاء المعاصرون. وبين فقه التوقع وفقه النوازل خصوص وعموم، ففقه النوازل أعم، وفقه التوقع أخص، فقه النوازل يبحث - غالباً - أحكام مسائل مستجدة، قد وقعت حقيقةً ولم تكن معروفة في العصور الماضية، وقد يبحث أحكام مسائل محتملة الوقوع، أو مما يحاول الناس تحقيقها؛ كالمسائل التي لها علاقة بالتجارب الطبية والعلمية ونحو ذلك، في حين أن فقه التوقع يبحث المسائل المحتملة الوقوع. أكاديمي في الشريعة. [email protected]