تشهد الساحة الموسيقية في مصر ولبنان تجارب تمزج بين اللون الشرقي ولون موسيقي آخر غالباً ما يكون الجاز، حتى بات «الجاز الشرقي» جزءاً من صناعة الموسيقى البديلة أو المستقلة كما يقولون أيضاً. وتأتي الموسيقى اللاتينية والروك مقارنة بهذه «الخلطة» خجولة في بلداننا. غير أن تجربة مجموعة «ناس مكان» تستحق الالتفات إليها. إنهم مجموعة من الموسيقيين والمغنين ينتمون الى ثقافات تكاد تكون منغلقة على نفسها، جمعوا بين الموال البلدي في الدلتا والغناء الجعفري في أقصى الجنوب، متوغلين في التجربة المميزة ليصلوا إلى الغناء على السلم الخماسي مع ملامح من غناء الغجر وموسيقى الزار في مزيج من شجن الآلات الشعبية كالأرغن والكولة وعمق الطنبور وصراخ الساكس وأنين الترومبيت... وتتداخل إيقاعات الدفوف والمزاهر التي تزداد حدة وصخباً، حتى تكاد تنزوي معها دقات الدرامز الذي يمنح الموسيقى شكلاً يدرك دوره تماماً. استغرق الأمر شهوراً حتى اكتشفت المجموعة التوليفة البسيطة والمنسابة كمياه نهر تتدفق في قاعة «مكان» حيث تغني «ناس مكان» في جو يصح أن يكون بيتاً ريفياً بأكسسوراته وإضاءته الخافتة ورائحة الشاي التي تغزو المكان. يشير مغني الموال البلدي في الفرقة سيد إمام الى إنهم يدمجون بين الشكل الشعبي وبين الآلات الغربية، ويبحثون عن مناطق ليتلاقوا فيها مثل مقامات النهاوند والكرد والعجم. لكن «العازف الحساس يمنح حتى الآلات الغربية طعم السيكا التي تميزنا»، ويضيف: «أما الإيقاعات فنلجأ إلى استخدام وحدات إيقاعية متساوية في الزمن مثل الجرك مع المقسوم والكراتشي مع الملفوف، ويؤدي مزجهما بالآلات المختلفة إلى تركيبة ايقاعية ثرية ومبتكرة». ويرى إمام الذي يغني في أفراح الشارع وغيرها، أن انضمامه الى فرقة «ناس مكان» والمشاركة في مهرجانات دولية مثل مراكش ونانت ولاهور، «أكسبني خبرات ومهارات جعلتني أغني بحرية ومزاج مع كل هذه الآلات. وأن أكون جزءاً من هذه الحالة – التوليفة». أما الغناء الجعفري فهو لون خاص بقبائل الجعافرة في قنا وأسوان ورثوه عن عرب الجزيرة العربية بكل ألوانه كالكف والمشالة والنمم يؤديها سيد الركابي بصوته القوي. ويعتبر الركابي أن الغناء الجعفري ثري لأنه مستوحى من البيئة والتأثير الثقافي الذي راح يجمع بين الغناء على السلم الخماسي وبالموروث العربي. ويتمتع مغني اللون الجعفري بالقدرة الفطرية على دمج السيكا، خصوصاً مع حرية المغني في الارتجال. فهناك اندماج ناتج عن التشابه مع الدواليب والمقامات الشرقية. ومن أهم من برعوا في الغناء الجعفري الريس حفني كما استفاد علي كوبانا وأحمد منيب وحسين بشير من تنوع وإثراء هذا الغناء. عازفا الساكس والترومبيت يتمتعان بدور مؤثر في «ناس مكان»، كونهما يحاولان طوال الوقت التوافق مع بعضهما البعض حيث يأخذ كل منهما مساراً لحنياً من طبقة ما على السلم الموسيقي. ويقول خميس عازف الترومبيت «هذه النوعية من الموسيقى لا بد لها من وجود تفاهم وتجانس قوي بين العازفين، أعددت بروفات كثيرة، لكن في الحفلة المباشرة الحية هناك زخم وتداخل بين الآلات ويجب أن نسمع بعضنا جيداً. وفي الوقت نفسه تظهر شخصية كل عازف والتكنيك الخاص بالربع صوت سواء عن طريق الأصابع أو النفخ». «التجربة في جوهرها حوارات بين مختلف الآلات»، كما يرى أمين شاهين عازف الأرغن الذي يصاحب ويمهد لغناء المواويل. ويشير الى أن «ما نقدمه قديم ولكننا في «ناس مكان» أظهرناها بشكل حديث وحافظنا على أصالتها». وعن دور الدرامز وسط الآلات الإيقاعية الشعبية، يقول خالد: «استوعبت في «ناس مكان» إيقاعات الزار. ووجدت أن أقرب شكل يمكن أن أستخدمه هو الجاز اللاتيني لأنه قريب من هذا الجو الموسيقي. كما أعتمد كثيراً على حسي الإيقاعي لأن معظم إيقاعات الزار غير موزونة وصعبة ومركبة. واشتغلت على نفسي لمدة شهرين». وترى الست مديحة (مغنية الزار في الفرقة) أن التجربة تقدم فناً رائعاً وجديداً وأنها استطاعت الدخول فيها كونها فنانة تفهم وتندمج مع كل جديد. وعن اختلاف أداء الزار بأنواعه مع ما يقدم في «ناس مكان»، تقول: «يبدأ الزار في معظم أنواعه بإيقاعات بطيئة وهادئة تأخذ في التسارع تدريجياً وبصوت أعلى وفي «ناس مكان» لا نؤدي بنفس القوة حتى لا ينزعج الجمهور».