في بيانه الشهير الذي كتبه ذات لحظة حماسية مع شريكه أنغلز، يتحدث كارل ماركس عن «شبح يخيم على أوروبا كلها»، فيرعبها. اليوم بالنسبة الى أحفاد لم يحسب لهم ماركس حساباً يوماً، هناك أيضاً شبح يخيم على أفلام بعضهم... حتى وإن كان أحيل الى التقاعد منذ حين. الشبح هو جورج دبليو بوش الذي «نراه» كثيراً - حتى من دون ان نراه - في فيلمين حديثين هما «الرأسمالية: قصة حب» لمايكل مور و «جنوب الحدود» لأوليفر ستون. فهذان السينمائيان المشهوران بلقب مشترك هو ابنا الفن الهوليوودي المشاكسان، إذ حيرهما باراك اوباما بمجيئه على رأس السلطة الأميركية وأربك خطاباتهما السينمائية، اكتفيا بأن يجعلا منه بارقة الأمل في نهاية الفيلمين، عائدين الى دبليو المتقاعد، ليركزا عليه. ولا يتم هذا الا في شكل يذكّر مرة أخرى بماركس حين يقول نقلاً عن هيغل: ان التاريخ يعيد نفسه، لكنه إذ يكون في المرة الأولى تراجيدياً يصبح في التكرار هزلياً. وبوش الابن يبدو لدى مور على الأقل، هزلياً غير فعّال، وبالتالي يصلح لكل الضربات، مثيراً تأرجحاً بين الضحك والاستهجان، حسب الطلب. براهين ناقمة الفيلمان حطّا أخيراً في مهرجان «الدوحة ترايبيكا السينمائي» غير بعيد من القاعدة العسكرية الاميركية في العاصمة... وأيضاً غير بعيد من الجارة الإيرانية ورئيسها محمود أحمدي نجاد الذي كاد ان يكون نجم شريط جديد لأوليفر ستون لولا «تضارب الأجندات». الفيلمان إذ يبدوان مختلفين من حيث الشكل، الا انهما يتفقان في الوجهة والمضمون. ففي فيلم مايكل مور، الأزمة الاقتصادية العالمية هي محرك الأحداث. اما الهدف فالنظام الرأسمالي الأميركي وطبعاً «عدو» مور الاول: جورج دبليو. لكنّ اللائمة لا تقع على بوش وحده في الفيلم، إذ لها امتدادات عبر التاريخ، تعود الى عهد رونالد ريغان الذي ارتبطت إدارته ب «وول ستريت» ارتباطاً جذرياً. وفي مقابل حرص ريغان وجورج دبليو على الرأسمالية، تطل في الفيلم لقطات من خطاب للرئيس الاميركي السابق جيمي كارتر يحذر من سطوة «وول ستريت» على اميركا. ولا يكتفي مور بالتصاريح السياسية. إنما يحاول ان يقدم براهين وأدلة على مساوئ النظام الاميركي. وهكذا يعجّ الشريط بقصص وشهادات ناقمة. فمن العائلة التي تطرد من منزلها لعدم قدرتها على سداد قسط المصرف، الى الشاب الذي يبكي امام الكاميرا بعدما صُرف من عمله، الى الطيارين الذين يعملون في ظروف صعبة وبرواتب معدمة، الى شركات التأمين التي تحتال على زبائنها... نماذج يحشرها مور في شريطه الوثائقي الجديد (105 دقائق)، وكأنه يريد ان يطوي صفحته مع هذا النظام بعد تولي اوباما سدة الحكم. ولعل نقطة الضعف الأساسية في الفيلم تبدو هنا. فمور، إذ أراد ان يقول كل شيء، وقع في فخ الثرثرة على رغم احتواء الفيلم مقابلات وشهادات وخبطات فنية تكسر الروتين، مثل افتتاح الوثائقي بتحذير يتوجه الى ضعفاء القلوب ناصحاً بعدم مشاهدة الفيلم... او حركته المسرحية الأخيرة حين يصل الى شارع «وول ستريت» بشاحنة مصفحة على طريقة الأفلام الاميركية ليزنر الطريق بشريط أصفر مكتوب عليه: «الرجاء عدم الاقتراب... مسرح جريمة»... أو حين يطأ عتبة أحد المصارف حاملاً كيساً كبيراً، مطالباً باسترداد أموال الشعب... أو حتى حين ينادي عبر مكبر الصوت مدير إحدى الشركات العملاقة ويطلب منه ان يسلّم نفسه للعدالة بتهمة سرقة اموال الشعب... الطريق الأسهل لقطات قد يعتبرها بعضهم، على رغم تهكمها، ديماغوجية، فيما يراها آخرون خطوة جريئة توجّه اصابع اللوم الى المصدر من دون خوف. وفي الحالتين يبدو ان صورة مور لم تتغير من فيلم الى آخر، وإن بات اسمه مصدر «رعب» لشركات كبرى تقفل ابوابها في وجهه على الدوام، على رغم معرفتها المسبقة انه لن يوفر مثل هذا السلوك في أفلامه. وإذا كانت بعض الأبواب موصدة في وجه مور، فإن كل الأبواب فتحت لأوليفر ستون في فيلمه «جنوب الحدود». ببساطة لأنه آثر ان يختار الطريق الأسهل، فلم يُتعب نفسه ويُسائل من يوجه اليهم أصابع الاتهام، ولو في شكل استعراضي كما فعل زميله مور، إنما اكتفى بوجهة نظر واحدة: تلك التي تعادي وجهة نظر بلاده. من هنا بدت دقائق الفيلم ثقيلة (75 دقيقة)، وبدا «جنوب الحدود» وكأنه يدور في حلقة مفرغة. بدأت الحكاية من سؤال حيّر المخرج الاميركي: هل هوغو شافيز هو ذاك العدو الذي تصوّره وسائل الإعلام الأميركية؟ وانطلاقاً من هذا السؤال لمعت في رأس ستون فكرة فيلم يبحث في نظرة الإعلام الأميركي الى شافيز. ولكن شيئاً فشيئاً ضلّ الفيلم الطريق وانحدر الى مكان آخر. فهو، إن كان انطلق للتنديد بالبروباغندا الأميركية ضد الرئيس الفنزويلي، وقع في فخ بروباغندا معاكسة هدفها تلميع صورة شافيز. بدا هذا في المقابلة التي اجراها مع الرئيس الفنزويلي، وفي إصراره على إظهار الصورة الإنسانية لشافيز وإدانته سياسة بوش. ولدعم موقفه، وإغاظة كل ما يمثله بوش امتدت الرحلة لتطاول دولاً اخرى في اميركا اللاتينية. فكان اللقاء مع رؤساء آخرين (البوليفي ايفو موراليس والبرازيلي لولا دا سيلفا والارجنتينية كريستينا فرنانديز دي كيرشنير وزوجها الرئيس السابق نستور كيرشنير، والبارغواياني فرناندو اوغو والإكوادوري رافاييل كوريا والكوبي راوول كاسترو) وبالصيغة نفسها. أي الحديث عن التغييرات الجذرية في اميركا اللاتينية، والتي غالباً ما تواجهها الولاياتالمتحدة بالإنكار. اي الحديث عن التغييرات على صعيد العمل الاجتماعي والصحة والتربية والإشراف على ثروات البلاد وتسديد الديون في تحد صارخ لإملاءات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. هذا التوجه صبغ الفيلم بسطحية كبيرة، وأفقده حججه التي بدت هزيلة، لتركيزه على ما يقوله الرؤساء فحسب، من دون ان يفتح اي نافذة امام الرأي الآخر، خصوصاً رأي المعارضين لتشافيز ول «الديموقراطية» التي يتحدث عنها ستون في هذا الوثائقي بإعجاب. كل هذا دفع بعض الأقلام للتهكم على ستون الذي صار، بالنسبة اليهم، «كاتب السيناريو المعتمد» للرئيس الفنزويلي... بينما نصحه آخرون بالتركيز على السينما الروائية التي منحته 3 اوسكارات والابتعاد من السينما الوثائقية التي لم تمنحه شهرة مور، لكنها منحته أعداءه. في اختصار، يمكن القول هنا، إن هذين الفيلمين اللذين صنعهما مخرجان عرفا دائماً بمشاكسة المؤسسة الأميركية الحاكمة، مهما فعلت والى أي فكر انتسبت، يبدوان الآن، مع اقتراب العام الأول من حكم الرئيس أوباما، خارجين عن السياق التاريخي، وعن الأحداث... وبخاصة عن ظرف جعل ساكن البيت الأبيض يفوز بجائزة نوبل للسلام. ويبدو «فضحهما» لواشنطن في تعاملها مع المسألة الرأسمالية والقيادات «الثورية» في أميركا الجنوبية، غير ذي جدوى... بل أشبه بتصفية حساب، مزدوجة، مع سلطات سبق للناخب الأميركي نفسه ان صفى حسابه معها، انتخابياً على الأقل. من هنا، إذا كان الفيلمان قد نالا تصفيقاً كبيراً من أطراف اعتادت ان تعادي أميركا تحت كل الظروف، الأكيد ان موضوعيهما لن ينالا إعجاب ولا إقبال، كل أولئك الذين صفقوا، سياسياً على الأقل، خلال السنوات السابقة لأفلام مثل «سايكو» و «فهرنهايت 11\9» لمور، أو «غير المرغوب فيه» و «كومندانتي» لستون... أفلام كانت في حينه جزءاً من معركة آنية، يبدو انها لم تعد تثير حماسة أحد اليوم.