«انفلونزا الخنازير» في لبنان... ليس في الخبر أي جديد. تعوّد اللبنانيون على «الضيف الثقيل» الآتي من آخر أصقاع الأرض، والذي اقتحم منازلهم ومقار عملهم وفسحات لهوهم وتسوقهم... هو الطبق الحاضر بمجرد التقاء شخصين وأكثر. تقال فيه كل الأوصاف، وتفرد له ساعات من «التشريح» الطبي والنفسي والوقائي والعلاجي، وتُخصص جلسات طويلة من الثرثرة المشوقة حول «حالات خاصة» لمصابين في الفيروس، تمكنوا من التغلب عليه بالضربة القاضية، بعدما قضوا أياماً معدودة في المستشفى، وخرجوا منتصرين على «الخنزير» القاتل! عند هذا الحد تبدو الأمور أكثر من طبيعية، هناك ما يشبه التآلف التلقائي مع «آخر مستجدات» المرض، وعلى رغم وفاة ثلاثة أشخاص حتى الآن في لبنان، آخرهم امرأة حامل في شهرها الثامن، فإن السياسة الحكومية تعمّم أجواء «السيطرة» على الوباء، وتدعو اللبنانيين إلى عدم الذعر «لأن الوقاية تبقى السبيل الأفضل» للمواجهة. وسط الأجواء التطمينية تشهد غالبية منازل المواطنين حالات رعب حقيقي غير مبرّرة في معظم الأحيان، وإن كان مشهد إقفال بعض المدارس بسبب تسجيل حالات إصابات بين التلامذة فعل فعله حتى لدى الفئة «اللامبالية». هنا فقط تخرج الأمور عن مسارها الطبيعي، ويصبح لفيروس H1N1 ترجمات يصعب تلمّسها حتى في الدول التي تشهد انتشاراً سريعاً ومخيفاً للمرض. في منزل آل جبور في بعبدا، جنوببيروت، ترصد حالات استنفار قصوى، سببها الأساسي عدم وصول اللقاح بعد الى المستشفيات اللبنانية، والأهم اقتناع العائلة بأن اللقاح لا يمنح «المناعة» اللازمة لمنع الفيروس من التغلغل في حناجر اللبنانيين، وذلك بناءً على دراسة «نبشها» روني (27 سنة) من بين عشرات الإحصاءات حول اللقاح ومنافعه، ومفادها ان 5 في المئة من الفرنسيين فقط وافقوا على أخذ اللقاح، فيما رفضت البقية «لأنه غير نافع، وهو شبيه بلقاح الرشح العادي». «الخبرية» الأكثر إثارة للعائلة الميسورة، و «الكنز» الثمين الذي اكتشفه روني ونال تهنئة خاصة عليه من والديه المرعوبين من «استيطان» الوباء في بلدهم، أكد لهم روني تصميم شركة هاروياما اليابانية بدلة «مقاومة» للانفلونزا، بما فيها انفلونزا الخنازير، وهي تتفاعل مع ضوء الشمس والفلورسنت، مما يولّد تفاعلاً كيماوياً يقضي على كل أنواع الفيروسات. الشركة خطّطت لبيع 50 الف بدلة هذا الموسم، أما سعرها فيبلغ نحو 594 دولاراً أميركياً للواحدة. «الخبرية حلوة لكن نهايتها محزنة»، فكيف السبيل الى اقتناء بدلة تبعد «شيطان» الانفلونزا، وعملياً لا تكفي 50 الف بدلة سوى لحماية سكان شارع واحد في اليابان...! البدائل كانت جاهزة وسريعة لا تحتمل التأجيل، قاعدتها الأساسية الحملة الاعلانية في وسائل الاعلام حول سبل الوقاية من مرض انفلونزا الخنازير. لائحة «الممنوعات» لدى آل جبور طويلة ولا مكان للاستثناءات. القناع (الماسك) يتصدّر الأولويات، ولا ينزع إلا داخل المنزل، وعند تناول الطعام. والحجة «ان لبنان بلد ملوث والقناع ضروري حتى في غياب الوباء». الغيت المصافحات والقبلة اللبنانية «الثلاثية» والزيارات غير الضرورية وعلّقت حفلات السهر وغسل الأيدي أصبح وسواساً... الوالد جيلبير لا يرى أي مبالغة في الموضوع «طالما ان حياتنا في الدق»، ولا يرى في اقتحام الفيروس لبعض المدارس سوى البداية لمسيرة وبائية ستتخطى عتبات المدارس والجامعات لتطاول اللبنانيين في منازلهم. وبوجود 1500 إصابة في لبنان وفي غياب اللقاح المنتظر، تحوّلت المدرسة لدى عائلة سامر كرم الى بؤرة مخيفة للمرض. وهكذا كان على ايلي (6 سنوات) أن يحفظ عن ظهر قلب تعليمات والديه بعدم اللعب مع أصدقائه موقتاً، وعدم مصافحتهم والاهتمام بدروسه واستبدال قراءة كتاب أو مراجعة دروسه بوقت الاستراحة واللهو... والدة ايلي المقتنعة بأن لقاح انفلونزا الخنازير، هو السبيل الوحيد لمواجهة الفيروس، أصيبت بنوع من الهستيريا بسبب عدم تمكنها حتى اليوم من الحصول على لقاح الرشح العادي أو الموسمي الضروري، برأي الأطباء، لحماية الأطفال من مخاطر الفيروس، بمعنى ان مناعة الطفل المزوّد بلقاح انفلونزا الخنازير فقط، هي أقل من مناعة الطفل الذي استحصل على اللقاحين. والدة ايلي التي حجزت منذ أشهر «حصتها» من لقاحات الرشح الموسمي لدى إحدى الصيدليات، لم تحصل بعد على «الذخيرة» المفترض ان تحمي عائلتها من «غضب» الفيروسات. واقع الحال ان الاستحصال على هذا اللقاح العادي بات يشبه الصفوف الطويلة أمام الأفران أيام الحرب الأهلية بعدما أحدث الطلب الكبير على اللقاحات أزمة على مستوى كميات التسليم في مطلع فصل الخريف. وفي وقت تؤكد المعلومات أن لقاحات انفلونزا الخنازير لن تكون في متناول اللبنانيين قبل النصف الثاني من شهر كانون الثاني (يناير)، بكلفة تقدر ب13,50 مليون يورو، فإن «الوقت الضائع» الثقيل يدفع بعض اللبنانيين الى اتخاذ احتياطات تلامس أحياناً حدود الذعر. شكا وزير الصحة اللبناني محمد جواد خليفة قبل أيام من تلقيه اتصالاً من سيدة جنوبية طردت من منزلها بسبب ارتفاع درجة حرارتها... ! الوزير يُطمئن الجميع على «اعتبار أن الوقاية خير من قنطار علاج»، لكن «فوبيا» انفلونزا الخنازير تبدو أقوى من رسائل التطمين الحكومية.