هل تعرفون قرية «الدغارير»؟ هل تعرفون قرية «الحكامية»؟ هل تعرفون عشرات من القرى التي تتناثر مثل لؤلؤ «أخضر» في جيد «جبل الدخان»؟ هل تعرفون إنسانها الذي اختزل الوطن في بسمته، وظل هناك يلمس السحاب بيديه، ويداعب المطر كل ليلة في قريته المخضبة بالزمن العتيق، قريته التي توسدت جبل الدخان بعيداً عن ضوضائنا و«عصرنا»، هذا الإنسان الذي رأيناه في الصور للمرة الأولى، أسمر نحيلاً مسكوناً بالتواضع، محيطه ما تراه عينه المكحلة بنور الفجر والنجوم، تسير بجانبه زوجة من «عفة»، تشاركه الفرح و«الألوان» والحقل ومواسم الحصاد، هذا الإنسان العظيم ظل هناك ساكناً ممتزجاً بالأرض والطين وتفاصيل تخفى علينا، ملتحفاً بالنأي، يغوص كل يوم وليلة في ريفه الغني بالبساطة التي لا تنتهي. تلك الجبال ضمت بين أضلعها أنفاسه وأحلامه وآهات سنينه، تنتقل من بين شجر البن المستلقي على ضفاف السحاب شموخاً وشجاعة وحباً وهياماً بالأرض والحجر والشجر، تدفقت في جنباتها أكثر من سبعة آلاف سنة، منذ أن جاء راكباً صهوة «قلبه» يحفر الورد ويسقي الجبال عطراً من فل وكادي و«يدرج» الجبال وينهك المطر في قنوات ريه، و«يطرق» بها الجبال، ويرقص معها في وديان الورد الذي يسيج به شعره قرنفلاً مثل طوق الشمس «القديمة». عبده ويحيى وعلي وعيشة وغيرهم من أبناء الجبال السمراء هم أبطال تلك المعركة، التي كدرت صفو الحياة وأنزلتهم من عناق الجبال، شاركوا بصمودهم وولائهم المطلق لتراب الوطن، ببقائهم أحياء في وجه الموت، كانوا جبالاً أكبر من الجبال، كانوا ناراً في «جبل الدخان». ولم يكد يصرخ الطفل الصغير في أيديهم فزعاً من لصوص الليل حتى جاء الوطن كله، جاء لم تسعه الأرض ولا الفضاء، جاء ركضاً وتحليقاً، تسبقه العين والأحداق فداء لتلك الأصوات المندهشة من صدمة الجار، ولأنهم نبتوا مثل شجر السرو لم ينحنوا لقسوة الخصوم ولا لغدر الأيام بهم. يوم أمس بكى جبل الدخان فرحاً بعودته إلى أحضان أهله الذين هدهدهم بين يديه ومسح الحزن بورق شجره عنهم، وتوجهم بالنصر، مطلقاً زغرودة فرح بالوطن وبهم، أليس هو جبل الدخان الذي عقد مع السحاب عهوداً؟ أليس هو من جبال الريح التي قال عنها الأمير المبدع «خالد الفيصل» عندما شرب من هوائها العذب فباح بإبداعه الذي يغطي كل الوطن حباً باذخاًَ متفرداً: إذ يقول بقلوبنا وعيوننا: «والسحاب يطاردك بين الشجر خالق الزين ابدعك... الندى في وجنتك... صار عطراً بلمستك». معركة جبل الدخان لم تكن معركة عابرة «في زمن عابر»، بل هي وقفة للتاريخ تقول لكل «غر» معجب بنفسه: قف على أسوار نزقك، فلعسير وجازان ونجد والحجاز رجال أوكلهم الله بحمايتها. [email protected]