انطلقت في دول أوروبا الشرقية السابقة سلسلة نشاطات (ندوات وإصدارات ومعارض) بمناسبة الذكرى العشرين لسقوط جدار برلين الذي كان بمثابة الزلزال الذي أطلق تحولاً ديموقراطياً طاول كل دول أوروبا الشرقية. ومن هذه الدول كانت ألبانيا تعتبر آخر قلعة للستالينية في أوروبا والعالم، حيث بقيت تماثيل ستالين قائمة في العاصمة والمدن الأخرى حتى 1991، كما كانت آخر ساحة مقاومة للنظام الشمولي الذي استسلم مع الإعلان عن نتائج الانتخابات البرلمانية في آذار (مارس) 1992. ولهذه الذكرى مغزى خاص في ألبانيا لان النظام الشمولي فيها كان الأكثر تشدداً والأكثر قمعاً للمثقفين، الذين استسلموا لواقع الحال بعد الملاحقات والإعدامات وأحكام النفي والمنع من النشر الخ. وفي ما يتعلق بألبانيا بالذات ترافقت هذه المناسبة مع الذكرى العشرين للجوء الكاتب إسماعيل كاداريه الى باريس، التي انتهزها لتقديم تفسير جديد لعلاقته مع النظام الشمولي وتخليه عن النظام في اللحظات الأخيرة لوجوده. وكان كاداريه اعتبر أن ما قام به يعبر عن «انشقاق» يستحق لأجله لقب «منشق»، ولكنه تخلى عن ذلك لاحقاً بالقول انه لم يكن في الإمكان حدوث أي انشقاق عن النظام الشمولي في ألبانيا ولم يكن هناك بالتالي وجود ل «منشقين» في ألبانيا. أثار هذا الموضوع من جديد الكاتب الألباني فاتوس لوبونيا، الذي كان من ضحايا النظام الشمولي في ألبانيا حيث انه قضى 17 سنة في أسوأ السجون الألبانية الى أن خرج منها في 1990 وهو لا يزال في الأربعين من عمره. وقد أبدع لوبونيا في وصف سنوات السجن في أعماله وبخاصة في روايته التي ترجمت أخيراً الى الانكليزية «الحكم الثاني» (انظر «الحياة» عدد 30/6/2009). وحصل لوبونيا على جوائز أوروبية منها «جائزة ألبرتو مورافيا» في 2002 عن كتابه «في سن السبعين». ففي ندوة نظمت في برلين حول الذكرى العشرين لسقوط جدار برلين في مطلع تشرين الثاني الجاري كان لوبونيا هو الكاتب الوحيد الذي دعي من ألبانيا للحديث عن تجربة ألبانيا قبل وبعد سقوط الجدار البرليني. وفي هذه المناسبة اعترف لوبونيا انه لم تكن في ألبانيا حالة «انشقاق» عن النظام في مجالات الفكر والفن والأدب بسبب القمع العنيف للمثقفين ولم يكن هناك «منشقون» بالمعنى الذي نعرفه عن دول أوروبا الشرقية آنذاك، وبالتالي فان النظام الشمولي في ألبانيا لم يسقط نتيجة ل «معارضة» كتاب أو «ثورة» شعبية كما حدث في الجوار. أما السبب في ذلك فقد أرجعه لوبونيا الى العزلة الشاملة التي كانت تعيشها ألبانيا عن العالم، سواء عن العالم الشيوعي المجاور الذي كانت تنتمي إليه بالإيديولوجية أو عن العالم الرأسمالي الذي كانت تحاربه بالشعارات. وحتى بعد تصدع النظام الشمولي في أواخر 1990 وسقوطه في ربيع 1992 لم يجد لوبونيا نفسه في الواقع الجديد (ما بعد الشمولي) الذي كان يتميز أيضاً بخصوصية ألبانية. فقد كان لوبونيا يعتبر أن النظام الشمولي المنهار في ألبانيا (نظام أنور خوجا) يقوم على خلطة ايديولوجية تجمع ما بين القومية الألبانية وما بين الماركسية الستالينية، ولذا فان نقده للعقيدة بقي متواصلاً سواء كانت مغلفة بشعارات قومية أو ماركسية. ومن الطبيعي في هذه الحالة أن يجد لوبونيا نفسه في مواجهة مع اليمين الديموقراطي الصاعد (القومي الألباني) ومع وريث النظام الشمولي السابق (الحزب الاشتراكي). وبسبب التركة الثقيلة للنظام الشمولي في ألبانيا بالذات، الذي أعدم وسجن كل صوت معارض للمثقفين وحّول الأحياء و «الأحرار» منهم الى كتبة نظام، فقد تميزت المرحلة الانتقالية في ألبانيا بتوتر العلاقة بين الكتاب. أدى خروج المعتقلين من السجون، ومنهم لوبونيا، الى أزمة علاقة مع الكتاب الذين بقوا موالين للنظام حتى اللحظات الأخيرة، ولذلك يقول لوبونيا انه أقيم جدار جديد بين هؤلاء الكتاب بعد سقوط جدار برلين. ومن هنا بادر لوبونيا في 1994 الى إصدار مجلة «بربيكيا» (المحاولة) التي أراد منها هدم الجدار الألباني الجديد وفتح منبر للتواصل بين الكتاب الألبان أنفسهم وبينهم وبين الكتاب الأوربيين بعيداً من الايديولوجية القومية أو الشمولية.