النساء في لبنان، والأمهات منهن بخاصة، لا يعلمن كلهن أنه لا يحق لهن بفتح حسابات مصرفية لأولادهن القاصرين، ودرجت المصارف على هذه الممارسة بسبب مانع الولاية الجبرية. وهذا الأمر مجهول أيضاً على معظم الأزواج. والصدمة تصيب أمهات كثيرات (وآباء)، إذ ترفض البنوك طلبات فتح حسابات لصغارهن ويكنّ وصيات على تلك الحسابات. وحقوقهن متفاوتة في دول أخرى، ففي مصر، يحق للأم فتح حساب لأبنائها والتصرف فيه، ولكنّه يُعتبر «تبرعاً» منها لهم، وعند بلوغهم الواحدة والعشرين تؤول هذه الأموال إليهم، تلقائياً. في بريطانيا، هذا الحق يعود للأم، قانوناً. والقانون الإيراني يحصر كل الإجراءات المتعلقة بالتصرف بأموال الصغار، بيد ولي الطفل وهو الأب أو الجد للأب، لكن تعديلاً قانونياً يعود إلى 1979، أجاز، استثنائياً، لأم الطفل وللطفل نفسه فتح حساب. والقانون اليمني يجيز للأم اليمنية الوصاية الكاملة على أبنائها القاصرين، في حال وفاة الأب أو عجزه أو بُعده عنهم، غير أنها تتنازل عن تلك الوصاية، بما فيها الوصاية المالية، لأسباب اجتماعية بحتة إلى ذكور العائلة. وفي الإمارات، باتت وصاية كلا الوالدين بيد القاضي. وفي سورية، تبقى الذكورة شرطاً لإدارة الأموال والنفوس. وأما في المغرب، فالمسؤوليات مشتركة والولاية للأب وحده... ربما كان قدر النساء أن تلاحقهن المشاكل، حتى المستتر منها والمجهول. تنفّذ جمعية «الاتحاد النسائي التقدمي» في لبنان تحرّكاً هادئاً لمعالجة «قضية» منع الأمهات من فتح حسابات مصرفية لأبنائهن القاصرين. والجمعية منظّمة غير حكومية مسجّلة منذ 1978. وجاء تحرّكها أولاً نتيجة لتناقل استنكار أمهات حاولن فتح حسابات للقاصرين، وفوجئن برفض المصارف طلباتهن. أي، أن الأمر ظل مستتراً حتى بدأ الطلب على هذا النوع من الحسابات يتزايد. وتقول رئيسة جمعية «الاتحاد النسائي التقدمي»، وفاء عابد، وهي موظّفة في أحد المصارف: «كانت الاعتراضات تأتي من نساء لبنانيات وأجنبيات أيضاً. فالقانون في المصارف، الذي يحصر هذه المعاملة بالأب، سببه مانع الولاية الجبرية، ويطبّق على الجميع». ولكن، في المقابل، تضيف: «لا يوجد أي قانون يمنع فتح حساب للقاصرين، لأن مصلحة الطفل مصلحة عليا، والحساب يصب في مصلحته». ثم أخذت الجمعية مبادرة البحث عن مخرج. ونفّذت دراستين اقتصادية وقانونية، بتمويل من الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، «أميديست – لبنان». وأقامت حلقات نقاش في عدد من المناطق اللبنانية، لتلمّس الواقع ومدى تجاوب الأمهات مع هذا التحرّك. ولاقى التحرّك دعماً من عدد كبير من منظمات المجتمع المدني في لبنان، في محاولة لتشكيل مجموعة ضغط، تناشد مسؤولين وجمعية المصارف لإيجاد حل للمسألة، من خلال «منتجات وخدمات مصرفية تستفيد منها الأمهات وأطفالهن، وللمصارف حق طرح منتجات كهذه»، كما تقول عابد، تخوّل الأم فتح حساب دائن لولدها القاصر، من دون أخذ موافقة الولي الجبري. وفي دراسة اقتصادية أعدّتها مؤسسة البحوث والاستشارات، بإشراف الخبير الاقتصادي كمال حمدان، يتبيّن أن تخويل الأم فتح حساب مصرفي باسم ولدها القاصر وتشغيله لمصلحتها، يأتي بفوائد عدة أكان للأولاد أم الأمهات أم القطاع المصرفي أم حتى الاقتصاد في شكل عام. واستندت إلى مقاربتين مختلفتين لتحديد الآثار المحتملة لهذا النوع من الحسابات: الأولى تستند الى أبرز خصائص الأسر من حيث التكوين والدخل ما أدى إلى تقدير العدد المحتمل للحسابات المصرفية باسم قاصر بنحو 108 آلاف. وفي الثانية، قدّر عدد تلك الحسابات بنحو 96 ألفاً، استناداً إلى خصائص الأم العاملة ووضعها الاجتماعي ودخلها وتكوين أسرتها. وتوصلت المقاربتان إلى نتيجة متقاربة قدرت بنحو100 ألف حساب مصرفي. وفي النتائج المالية، قدرت القيمة التراكمية بنحو 400 مليون دولار. «جملة تناقضات في القوانين اللبنانية يمكن أن تعيق هذه المسألة، وفي الوقت ذاته يمكنها أن تيسّر الحل بعيداً من الخوض فيها»، تقول خبيرة شؤون التنمية، خاتون حيدر، التي تواكب هذا التحرّك. وتعطي حيدر لمحة عن أجواء حلقات النقاش التي نظّمتها الجمعية، خصوصاً أن الحضور كان من كل الأطياف والطبقات. «في البدء، اعتقدنا أن مسألة الأمهات وحساب القاصرين تهم شريحة محددة من المواطنين والمواطنات، من سكّان المدن والموظفات أو النساء المنتجات، ولكننا فوجئنا باهتمام شديد من ذوي الدخل المحدود وسيئي الحال»، تقول حيدر. وتروي قصة تلك المرأة الفقيرة التي اشتكت، في إحدى الحلقات، من زوجها المدمن على الكحول ولعب الميسر. وذكرت تلك المرأة أنها فتحت حساباً لأبنائها القاصرين، بعد أن جنت «مليون ليرة» (وهو مبلغ بخس ولكنه كبير نظراً إلى أوضاعها المزرية)، تحسباً للأيام السوداء على أبنائها. ولكنها فوجئت، ذات يوم، بأن الحساب فارغ. ذلك أن زوجها سحب كل الأموال، أو «جنى العمر» من منظارها. وعندما راجعت الموظف في المصرف، قيل لها إن من وقّع على الأوراق هو زوجها وبالتالي هو من يحق له التصرّف فيه. وتذكر عابد قصة امرأة أخرى، واجهت رفض المصرف، بأن كتبت وصية تمنح فيها أموالاً مدّخرة لأبنائها بعد مماتها، وأشارت في الوصية إلى مكان وجود الأموال داخل المنزل. ويستند تحرّك الجمعية ومنظمات المجتمع المدني الداعمة إلى جملة معطيات، منها وجود حلول في دول عربية أخرى، منها على سبيل المثال، لا الحصر: مصر، عبر دفتر توفير للمدّخر الصغير. والإمارات عبر التحكّم في حساب القاصر، واعتماد وكيل عليه، غالباً ما يكون الأم. والكويت، عبر حساب البراعم والوصاية فيه تعود للأب أو للأم. واليمن عبر خدمة جديدة تهدف إلى غرس عادة الادّخار في أجيال الغد. وحرصت جمعية «الاتحاد النسائي التقدّمي» والمنظمات الداعمة على أن يكون التحرّك هادفاً، من خلال استمارات – طلبات يقدّمها المهتمون بهذه القضية إلى المصارف التي يتعاملون معها أو إلى جمعية المصارف، لتشكيل ضغط «تراكمي» عليها وإيجاد مخرج. دليل آخر على التحرّك الهادئ يتمثّل في تلك الألوان الهادئة للمنشورات ذات الصلة، والتشديد على الأمهات: «لنثق بأمهاتنا، فهن أحق الناس بهذه الثقة وأدرى الناس بمصلحة أطفالنا».