شهد الصيف الماضي جدلاً غير تقليدي في الأروقة السياسية والفكرية الكورية الجنوبية، كان محوره الأساسي الاجتهاد في الإجابة عن السؤالين: كيف يرانا الآخرون؟ وكيف السبيل إلى الظهور أمام الخلق أجمعين على أفضل ما يتوقعون ويرغبون فيه؟ في هذا السياق عبر بعض المسؤولين عن انزعاجهم لسبب آخر غير مناكفات نظام بيونغ يانغ في الشمال، هو أن استطلاعاً للرأي كشف عن أن «كوريا الجنوبية تفتقر إلى الجاذبية عند الأجانب»! وعليه، قررت سيول تشكيل مجلس رئاسي معزز بملايين الدولارات، مهمته متابعة هذه القضية ودراسة أسبابها وبلورة مقترحات في شأن كيفية تحسين صورة البلاد في وقت قياسي. هذا الاستنفار كان له، موضوعياً، ما يبرره، فقد أضحت الصورة النمطية، وموجزها الانطباعات الأولى التي يستشعرها الأجانب الزائرون منهم وغير الزائرين عن بلد أو شعب ما، من المباحث المهمة في دراسات الاجتماع الإنساني والعلاقات الدولية. وغالباً ما تنطوي هذه الصورة على تأثيرات عميقة، سلباً أو إيجاباً، بالنسبة لقطاعات السياحة وتسويق المنتجات والمعاملات التجارية والإقبال أو الإحجام إزاء تصرفات الدولة المعنية وسياساتها على الصعيدين الإقليمي والدولي. كان البريطانيون والفرنسيون سباقين في متابعة قضية الصورة. وهم استغلوا انتشارهم في أرجاء المعمورة إبان سيادتهم للنظام الدولي وعهودهم الاستعمارية في بسط لغاتهم الوطنية ومفاهيمهم الثقافية. والنتيجة أن شعوباً كثيرة استسهلت التواصل معهم واستقبال منتجاتهم وزيارة بلادهم، لانكسار حاجز اللغة واستقرار بعض المعارف الأساسية عنهم. والمدهش أن قطاعات اجتماعية بعينها من الشعوب التي خضعت لسيطرة البريطانيين والفرنسيين، لم تستنكف عن إبداء الإعجاب بهم والاستتباع لتقاليدهم واستلهام أذواقهم ونماذجهم السلوكية على نحو يدعو لاستحضار مقولة شيخ علمي التاريخ والاجتماع ابن خلدون عن «محاكاة المغلوب للغالب». وعلى رغم أن ألمانيا كانت أقل حظاً في الانتشار والتأثير الثقافي واللغوي، إلا أنها تحظى الآن بالمرتبة الأولى عالمياً على قائمة الدول ذات الصورة الإيجابية. والسبب هو شهرة الألمان كشعب منضبط مفعم بالحيوية لا يعرف المراوغة، مبدع، مخلص في تجويد مصنوعاته، قليل اللغط، عميق الفكر. ولا ينافس ألمانيا موقع القمة في هذا المجال أكثر من اليابان، التي يتمتع شعبها بصورة تكاد تكون مستنسخة عن صورة الشعب الألماني مع اختلافات في بعض التفاصيل. وتعد الولاياتالمتحدة في طليعة المنشغلين بنوعية صورتها لدى الآخرين. وقد لا يعرف كثيرون أن الدراسات السلوكية وما يعرف بعلم الاتصال، الأوسع من حقلي العلاقات العامة والإعلام، قد تطورا في المحافل الأكاديمية الأميركية أساساً. وراهناً تجتهد إدارة باراك أوباما في رأب الصدوع التي ألحقتها إدارة سلفه بالصورة الأميركية. بدورها، سعت إسرائيل حثيثاً منذ نشوئها الى عرض صورة ذاتية مضيئة لها، أبرز ملامحها أنها دولة حديثة الاستقلال ومتقدمة وتمثل واحة للديموقراطية في محيط موشي بالديكتاتوريات والتخلف. وعلى رغم ابتلاع الكثيرين لهذا الإفك طويلاً، إلا أن حقيقة هذه الدولة راحت تتجلى، بفعل آثامها وسجلها الجنائي المنحط، ما أدى إلى شحوب صورتها المصطنعة بفعل ماكينة إعلامية دعائية جبارة. وفي تقديرنا أن مجافاة إسرائيل للأوساط الحقوقية الدولية، بشقيها الرسمي والشعبي، ناجم أساساً عن دور هذه الأوساط ومساهمتها في مناهضة التاريخ الدعائي لهذه الدولة وعرض صورتها على الملأ بلا رتوش. من اليابان وكوريا شرقاً إلى الولاياتالمتحدة غرباً، تبحث معظم الدول عما يزين صورتها أمام الخلق ويجعلهم يتجاوبون معها ويتقبلونها بقبول حسن. ومع ذلك، ليس ثمة، على حد علمنا، ما يبين حجم الجهود والاجتهادات العربية على هذا الصعيد. غير أن من يعتمد على منهج الملاحظة والاستقراء والسيرة الذاتية لتصورات الآخرين عن العرب، لا يصل إلى نتيجة إيجابية مطمئنة. بل وربما جاز الاعتقاد بأن رؤية هؤلاء الآخرين للدول العربية تستبطن من السلبيات أكثر مما تستبطن من الإيجابيات. والخطير أن الصورة النمطية السلبية في هذا الإطار تتعلق إلى حد كبير بكل من الدول والشعوب على حد سواء، بمعنى أن التمييز الذي يقيمه البعض أحياناً بين الدول (السلطات أو الحكومات أو نظم الحكم) وبين الشعوب، بحيث ينظرون بإيجابية للشعوب وبسلبية للحكومات، لا يستطرد إلى الحالة العربية. سيقول نفر من المعنيين بأن أعداء العرب وخصومهم، وربما حسادهم أيضاً، هم المسؤولون عن إيذائهم معنوياً وتشويه صورتهم والتعريض بهم. هذا أمر وارد ولا يجوز تجاهله، باعتبار أن صناعة الصور وتكوين الانطباعات عن الذات مجال مفتوح، يستطيع الآخرون اقتحامه بأدواتهم والتأثير عليه برؤاهم وتقديراتهم التي لا تخلو أحياناً من عمليات التزييف. لكن مثل هذه الحقائق والمعطيات لا تبرر الاستنامة لها أو العجز أمامها، وإنما تقتضي توسيع أجندة التعامل الخارجي بإدراج محور تغيير صورة العرب دولاً وشعوباً نحو الأفضل وإزالة سلبياتها، المطبوعة منها والمصنوعة، من المخيالات الجمعية لعوالم الآخرين. نعلم مدى صعوبة هذه المهمة وما تحتاجه من موارد ومدخلات ومستوى للتعاون والتنسيق بين الحكومي الرسمي والأهلي المدني على مدار ممتد زمنياً، ولكن منذ متى كان الإبحار في دنيا العلاقات الدولية واستقطاب المحبين والمريدين والأنصار أمراً يسيراً. *كاتب فلسطيني