الحديث عن التوريث في مصر - من منظور الرفض والاستنكار - ليس جديداً، لكنه اتخذ في الأسابيع القليلة الماضية شكلاً أكثر حدة وأكثر إثارة وأكثر تفصيلاً. فهناك كتاب، كالكاتب محمد حسنين هيكل، دعوا إلى لجنة حكماء أو أمناء تشكل من بعض كبار الأسماء والشخصيات العامة، تضع دستوراً جديداً لغرض تأمين انتقال السلطة بعد الرئيس حسني مبارك، وهناك من تحدث عن «خروج آمن» للرئيس وعائلته، كما فعل الإعلامي عماد أديب، وهو المعروف بقربه الشخصي من الرئيس ونجله جمال. كل ذلك سبق المؤتمر الدوري للحزب الوطني الحاكم الذي يشغل فيه جمال مبارك منصب الأمين العام المساعد ورئيس أمانة السياسات، والتي ينظر إليها باعتبارها العقل المدبر والمفكر للحزب والمسؤولة عن الكثير من القرارات والقوانين والتعديلات التي أصابت الدستور في العام 2005، كما ينظر إليها أيضاً باعتبارها المحرك الذي يحمي مصالح كبار القوم ورجال الأعمال الذين يتواجدون بكثرة في الأمانة ولجانها المختلفة. توريث الشيء أو وراثته، بحسب اللغة والعرف والشرع، يرتبط أساساً بالملكية المشروعة المعترف بها. فمالك الشيء يمكنه أن يورث أبناءه أو أحفاده كل أو بعض ما يملك. وإن لم يفعل في حياته بإرادته الحرة وفقاً لوصية، تم ذلك بحسب الأصول الشرعية والقانونية بعد مماته. أما في السياسة، سواء مصرية أو غيرها، فإن الحديث عن التوريث هو في حد ذاته نوع من الرفض الصريح لأن يتولى منصب الرئاسة أحد أبناء الرئيس حتى لو تم ذلك عبر الآليات القانونية والدستورية المعمول بها بعد تطويعها، لأن الأمر برمته ليس مجرد إعمال شكليات، ولكن لكونه يتناقض مع أسس النظام الجمهوري والمؤسسي المعمول به. وكثير من الذين يؤيدون أو لا يرفضون وصول جمال مبارك لمنصب الرئيس يحصرون الأمر في هذا الجانب الشكلي الذي هو مجرد التزام بنص دستوري، في حين أن الرافضين يرون أن هذا الالتزام الدستوري الحرفي لا يعني الشرعية أو الرضى الشعبي، لأن المادة 76 من الدستور التي تحدد مواصفات المرشحين المحتملين للانتخابات الرئاسية تضع شروطاً مستحيلة على المستقلين الذين لا ينتمون إلى الأحزاب، إذ يلزم لقبول الترشيح لرئاسة الجمهورية أن يؤيد المتقدم للترشيح مائتان وخمسون عضواً على الأقل من الأعضاء المنتخبين لمجلسي الشعب والشورى والمجالس الشعبية المحلية للمحافظات، على ألا يقل عدد المؤيدين عن 65 من أعضاء مجلس الشعب و25 من أعضاء مجلس الشورى، و10 أعضاء من كل مجلس شعبي محلي للمحافظة من بين أربع عشرة محافظة على الأقل. وهو ما لا يمكن تصور أن يحصل عليه أي مرشح مستقل، اللهم إلا إذا أيده الحزب الوطني الحاكم والذي يسيطر تماماً على هذه المجالس بمستوياتها الثلاثة، وفي هذه الحالة سيكون مرشحاً مستقلاً مدعوماً من الوطني الحاكم ضد مرشح الوطني الحاكم أيضاً. أو بمعنى آخر ستكون انتخابات رئاسية هزلية بكل معنى الكلمة. المادة نفسها تعطي الفرصة للأحزاب لكي ترشح أياً من أعضاء هيئاتها القيادية العليا شرط أن يكون مر على عضويتهم عام على الأقل. وهي ميزة للأحزاب المعترف بها قانوناً، وهي الآن تزيد على 22 حزباً القاسم المشترك الأعظم بينها جميعاً، سواء القديمة منها صاحبة التاريخ كالوفد والتجمع اليساري والعربي الناصري، أو الحديثة التي لا يزيد عمرها على أعوام أو أشهر عدة، أنها جميعاً بلا فاعلية وبلا حضور بين الناس، وهي أقرب إلى الديكور الذي يُجمل الشيء ويخدع البصر، لكنه لا يمارس وظيفته الأساسية وهي السعي للوصول إلى السلطة واكتساب الشرعية بين الناس أولاً ثم عبر الانتخابات ثانياً. بهذا المعنى فإن الحديث عن التوريث يكشف عورة بل عورات الحالة الحزبية المصرية، والتي هي في جوهرها حالة حزب واحد كبير ومسيطر ومهيمن على كل شيء تقريباً، في حين يترك الفتات لأحزاب لا توجد إلا على الورق أو عبر صفحات الجرائد التي لا يزيد توزيعها على بضع آلاف لا تسمن ولا تغني من جوع. ويكشف أيضاً عن خواء العمل السياسي المصري نتيجة تراكمات أربعة عقود متتالية. والمفارقة هنا أن الجميع يدرك هذه الحقيقة، ولا يقدم علاجاًَ يشفي غليل المشاركة السياسية، أو يضع الأحزاب على طريق النهوض وبما يجعل التعددية الظاهرية تعددية فعلية. هذا الكل الجامع، أي أزمة الحياة السياسية المصرية، هو الذي يحفز على التفكير في مخارج غير دستورية. وهي تتم، بحسب تجارب الشعوب والمجتمعات، إما من طريق العنف والثورة والانقلابات، وتلك بدورها مستبعدة مصرياً لأسباب عدة أبرزها قوة المؤسسات الأمنية التي تعد رمانة الميزان بين العنف واللاعنف. أو من طريق المخارج التوافقية وفقاً لقاعدة التراضي العام، وتلك بدورها إما تنطوي على بعض من الدستور أو القانون، أو تنحو إلى استبدال الدستور والقانون بفكرة أو آلية انتقالية تمهد لحالة مستقرة ومستمرة لاحقاً. وفق هذا الصنف من المخارج التوافقية إن قبلت من ذوي القرار والمصلحة يأتي طرح كل من محمد حسنين هيكل وعماد أديب المشار إليهما آنفاً. أهم ما يجب ملاحظته هنا أن هذه الاطروحات تأتي من مثقفين أو مهتمين بالشأن العام، وضعوا أنفسهم في دائرة المسؤولية للتفكير نيابة عن جموع الناس، وهو أمر معروف عن كل مهتم بهموم الوطن الجامع، ويصلح غالباً في لحظات التوتر العام أو الفوضى الجارفة أو وصول الاحتقان الشعبي إلى ذروته منذراً بانفجار مدمر للجميع. وعلى رغم أن مصر تشهد بالفعل حال عدم رضى شعبي عن نوعية الحياة السائدة، ونوعاً من عدم الثقة بين الناس والحكومة، وفجوة بين تطلعات جموع الشباب وبين واقع الفعل الاقتصادي السائد، وموجة انتقادات مستمرة لسطوة رجال الأعمال على السياسات الاقتصادية ومزيجاً من الحراك الاجتماعي والسياسي غير المنظم، والدليل على ذلك الكم الهائل من الإضرابات والاعتصامات من فئات مختلفة من المواطنين في الأعوام الثلاثة الماضية، إلا أن الأمر برمته، وهذا اجتهاد شخصي بحت، لم يصل بعد إلى مؤشرات الانفجار المدمر، فهناك أيضاً بعض تحركات حكومية وسياسية عليا تعمل على تفريغ كم الإحباطات الاجتماعية ولو جزئياً وأولاً بأول، كما توفر بعض المخارج للناس من الفئات الوسيطة لكي تمارس قدراً من الحركة، ربما لا ترضي طموح الغالبية، لكنها تقلل من حالة الاحتقان الاجتماعي. وجوهر ما يعرف ببرنامج الرئيس مبارك الرئاسي في مجال الإسكان الشعبي وإنشاء المصانع الصغيرة والمتوسطة وتحديث البنية الأساسية في الطرق والصرف الصحي وتوفير مياه الشرب والكهرباء، هو استقطاب فئات عريضة من الطبقة الوسطى تحديداً إلى دائرة الأمان، ومن ثم عدم السماح بأن يصل مستوى الغضب العام إلى المستويات الحرجة التي يصعب السيطرة عليها. ويمكن أن نضع تحركات جمال مبارك، لا سيما ما يتعلق ببرنامج تنمية ألف قرية فقيرة والحوارات مع أعداد مختارة من الشباب حول الأوضاع الجارية، والتبشير بنظام جديد للتأمين الصحي يمتد إلى غالبية المصريين بتكاليف معقولة، كجزء مكمل لبرنامج الرئيس الانتخابي في شقه الاجتماعي. كما تؤكد قدرة الابن على التحرك في المجال العام وإحداث تأثيرات إيجابية لعلها تجذب مؤيدين كثراً إذا جاءت لحظة تتطلب تأييداً شعبياً طوعياً وليس قسرياً. معنى الأمر إذاً أن الحديث عن انتقال آمن خارج نطاق الدستور، أو بالأحرى الانقلاب السلمي التوافقي على الدستور، أو توفير ملاذ آمن للرئيس ولأسرته وكأن مصر تشهد حال حرب أهلية، هو حديث مبالغ فيه ولا يستقيم مع منطق الحالة المصرية بتقاليدها العريقة وواقعها المُعاش. كما لا يستقيم مع قناعات الرئيس مبارك نفسه التي عبر عنها أكثر من مرة سواء عن نفسه وعن دوره في الحياة، والتي يمكن اختصارها بأن الرجل يؤمن بأنه يؤدي دوره لخدمة بلده وشعبه بكل إخلاص ونزاهة، وأنه لن يتخلى عن نداء الواجب وخدمة الوطن ما دام فيه قلب ينبض بالحياة. إذ لا يعقل أن يقول الرجل بعد كل هذا الرصيد من العمل كمسؤول أول بحسب الدستور، انه لم يقدم شيئاً لبلاده وأنه يرضى بمجرد الخروج الآمن وكأنه أجرم في حق الوطن، ولا يتمنى سوى الصفح وعدم المحاسبة، فأي منطق هذا؟ كما لا يستقيم ذلك مع حقيقة أن مصر هي دولة مؤسسات راسخة بالفعل، ومؤسساتها قوية مهما بدا في تحليلات البعض في الداخل أو في الخارج أنها مغمضة العين أو غير عابئة بما يجري، أو تترفع عن الدخول في معترك الصدامات والمواجهات. فهذا عكس ما يجري بالفعل، ولينظر الجميع إلى الملاحقات الأمنية المدروسة في حق جماعة «الإخوان المسلمين» عبر السنوات العشرين الماضية، والتي تجهض الكثير من أحلام الجماعة وتمثل لأعضائها كابوساً ثقيلاً. قد يقلق المستثمرون أو بعضهم من حالة الجدل المكثف حول من يخلف الرئيس، على رغم أن الانتخابات الرئاسية ما زال أمامها عامان، وقد تتعالى أصوات المعارضين بالخوف على مصر واستقرارها، وقد ينتقد كثيرون في الداخل وفي الخارج كثيراً مما يجري في الحياة السياسية المصرية، وغير ذلك كثير. بيد أن الأجدر أن يكون هناك حل عملي وليس أوهاماً، وأن تشكل الأحزاب مثلاً جبهة عريضة وجادة وراء مرشح مصري له شعبية حقيقية بين الناس، وليس مرشحاً لا تعرفه إلا نخبة محدودة من المثقفين أو شباب الانترنت الذين يستمتعون بالعمل العام عبر المدونات وغرف الدردشة المكيفة، وكلاهما لا يغير من الواقع شيئاً. * كاتب مصري