يطالب تحالف نادر بين الحزب الاشتراكي السويسري وحزب الشعب المحسوب على اليمين المتشدد، بضرورة العمل على تصغير حجم المصارف ومؤسسات المال الكبرى كي لا يتسبب انهيارها في إضعاف الاقتصاد الوطني وإنهاك موازنة الدولة في محاولات إنقاذها. ويستند التحالف، الذي تقدم بطلباته إلى البرلمان السويسري لدرسها في جلسات الخريف المنعقدة حالياً، على اعتراف البنك الوطني بأن «إنقاذ المصارف في وقت الأزمات، كي لا يتسبب سقوطها في تداعيات سلبية على الاقتصاد المحلي، خطأ لا يمكن تكراره مجدداً في أي ظرف». إلا أن تلك التوجهات لم ترق قطاع المصارف ومؤسسات المال، ويقول الناطق الإعلامي لاتحاد المصارف السويسرية توماس سوتر ل «الحياة»: «إن هذه التوجهات غير مقبولة، لأن أجهزة الرقابة المالية تقوم بدورها، أما دور الحكومات فيجب أن يبقى في وضع الأطر المناسبة لتحسين الأداء الاقتصادي»، ويشدد على «أهمية تحليل تداعيات الأزمة لدرس الأخطاء وتفاديها مستقبلاً». ونشر رئيس مجلس إدارة بنك «كريدي سويس» هانز اولريش دوريغ تحليلاً حذر فيه من وضع قيود صعبة على أداء المصارف الكبرى، «لأن مثل تلك القيود تؤثر في الاقتصاد المحلي بما فيه الشركات الصغرى والمتوسطة التي توصف بعصب الاقتصاد الداخلي، وتعتمد تلك الشركات على القروض والتسهيلات الائتمانية التي تقدمها لها المصارف الكبرى، من أموال المستثمرين الأجانب»، ما يعني أن تقليص حجم المصارف ينعكس سلباً على الاقتصاد الوطني. وفي تعليقه ل «الحياة» على تلك التوجهات يقول أستاذ علم المصارف في جامعة سان غالن الاقتصادية (شمال شرقي سويسرا) البروفسور بيات بيرنيت: «إن كبر حجم المصرف ليس العامل الوحيد الذي يمكن من خلاله الحكم على مدى استقراره، بل يجب النظر بدلاً من ذلك إلى درجة تعرض المصارف للأخطار، وفق وثائق كل منها». ويشير بيرنيت، الذي يعمل أيضاً مستشاراً لحكومات في شؤون المصارف، إلى أن «مجموعة صغيرة من صناديق التحوط «إل تي سي أم» هددت النظام المالي العالمي في تسعينات القرن الماضي، ولم تنشأ الأزمة الحالية فقط بسبب حجم المصارف ولكن بسبب كمية الأوراق المالية السامة التي اقتناها كل مصرف». ويؤكد بيرنيت في الوقت ذاته، على أن «حجم أي مصرف يجب ألا يكون كبيراً لدرجة يشكل تهديداً لكامل النظام المالي للدولة التي يعمل فيها، أو يضع النظام المالي العالمي في مأزق. بل يجب أن يكون حجم المصرف متناسباً مع البيئة الاقتصادية التي يعمل فيها متمثلاً في نظام الدولة والاقتصاد المحلي وإمكان تعاملاته الخارجية. لذا يصعب وضع معايير ثابتة وقياسية تضع الحد الأدنى أو الأقصى لحجم كل مصرف». ولا يشكك الخبير الاقتصادي في أن سلطات الرقابة على المصارف «قد أخفقت في أداء مهماتها، وبصفة خاصة في عدم الانتباه بالقدر الكافي إلى نسب الأخطار التي ظهرت في صور متتالية، بل ركزت تلك السلطات على متابعة كل مصرف على انفراد». ويرى أيضاً أن القواعد الجديدة الخاصة برأس المال الخاص بالمصرف وحقوق المساهمين «وضعت الأمور على الطريق الصحيح، في حين لا تزال مسألة المكافآت الفاحشة التي تعتمدها مصارف عدة لمديريها مشكلة تنتظر حلاً». وبينما يؤيد بيرنيت وضع اتفاقية «بازل 3» لا يرى أن «بازل 2» قد فشلت، «لأن التركيز فقط على رأس المال الخاص بالمصرف لا يفيد في الأزمة، فالمصارف لا تفلس بسبب نقص رأس المال، بل بسبب نقص في السيولة، وهنا يجب التدخل ووضع قيود ومعايير أكثر صرامة لها». لكن قطبي تحالف اليسار واليمين السويسريين يستندان في موقفهما إلى آراء مشابهة في أوروبا والولاياتالمتحدة تؤيد توجهاته لا سيما بعد أن أوضحت بيانات صندوق النقد الدولي في حزيران (يونيو) الماضي أن 11 دولة صناعية أوروبية كبرى (من دون ارلندا وإيطاليا وسويسرا) حصلت على دعم لحماية نظامها المالي من الانهيار بلغ 36 في المئة من إجمالي ناتجها المحلي السنوي، في حين ارتفعت تلك النسبة إلى 81 في المئة في الولاياتالمتحدة و82 في المئة في بريطانيا، ويؤكد أن «أية تحركات في هذا المجال يجب أن تكون تحت مظلة الدولة، لأنها في النهاية الضامن لأي إخفاق يتسبب فيه المصرف، ما يفتح الجدل مجدداً حول العلاقة بين الدولة والاقتصاد في الأنظمة الليبرالية التي تعتمد على حركة رأس المال عالمياً في مجالات الاستثمار. ويشير مدير معهد العلوم السياسية في جامعة سان غالن الاقتصادية بروفسور جيمس ديفيز، إلى أن العلاقة بين السياسة والاقتصاد تأخذ منعطفاً جديداً في ظل الأزمة «بحيث بات مؤكداً أن الاقتصاد وحده غير قادر على اجتياز الأزمات ولا يملك العصا السحرية لذلك، وأن النظم الاقتصادية التي ظهرت في العقدين الأخيرين شكلت ظاهرة الاقتصاد العابر للقارات والشركات المتعددة الجنسيات، ما جعل الحكومات تعاني من صعوبة مراقبة الحركة المالية والتجارية حول العالم، وتصل إلى آلاف بلايين الدولارات يومياً. هذه المشكلات تدعو إلى تحالفات دولية جديدة، إذ ليس من قبيل المصادفة أن تتحول مجموعة الثمانية إلى مجموعة العشرين، أو أن تبرز منظمة مثل منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية لتعبر عن مخاوف الحكومات من حين إلى آخر». وأكد ديفيز أن أزمة المال أسفرت عن تحديات كبيرة تواجه الحكومات، ففي حين تبقى سلطاتها محكومة داخل حدودها الجغرافية، كسرت الليبرالية الاقتصادية تلك الحواجز، وشدّد في الوقت ذاته على أنه «من دون اقتصاد صحيح تفشل الدولة، ومن دون الدولة يعمل الاقتصاد كيف يشاء».