لا يمكن قراءة تلك التجاذبات العنيفة بين «حزب الله» كمشروع ومنطق اللادولة، وبين مصر كدولة وكيان سياسي متجذر وعريق، مهما بدا قد انحنى لسقف منخفض هذه المرة لظروف المرحلة... لا يمكن قراءة ما يحدث بعيداً عن حرص حزب الله على تفجير مشروعيته، التي تبدو على المحك وفي أضعف حالاتها وتصديرها مرة أخرى خارج لبنان عبر شعار «المقاومة» الذي كان يتذرع به كثيراً ويبرر به منطق اللادولة في الداخل، ليأتي الآن ويصدم به سيادة دولة كمصر في صرعة انتحارية تذكرنا بخيبات «النصر الإلهي» الذي تبدو كل الظروف غير مواتية لتكراره الآن. السيد حسن نصر الله بدا مرتبكاً بشكل كبير هذه المرة، فلم تسعفه بلاغته المعهودة والكاريزما التي كان يسوقها كصاحب قضية يحاول لملمة أطرافها في الداخل، وبكثير من الوعود أنه لا يمكن أن يعبر بأجندته إلى خارج جنوب لبنان ومزارع شبعا وكأقصى نقطة غزة، لكنه هذه المرة أساء التقدير فنقل معركته إلى مصر بعد أن ذهب بغبارها من قبل إلى صنعاء والمنامة ودول أخرى، فهل الجميع ضد المقاومة كما يحاول أن يمرر على أنصاره والمتعاطفين مع شعاراته؟ لم تعد لعبة «الشارع» مجدية في هذا التوقيت الذي أصبح موضوع السيادة لا يمكن التسامح معه، فكل دول المنطقة، وهذا من حقها، تحاول أن تواجه ضغط الاستقطابات السياسية التي تقودها إيران وحلفاؤها الجدد بتعزيز هذه السيادة وربما على حساب ملفات أكثر أهمية كالتنمية ومواجهة الأزمة الاقتصادية. قوى المعارضة تحاول أن تنفذ في هذه اللحظة الحرجة من بوابة الشارع، وتعيد تأسيس مشروعيتها عليه عبر الإتكاء على القنوات الإعلامية تلك التي تحاول أن تعزز حضورها عبر الإيغال في هكذا مشاحنات، كاستراتيجية ثابتة تغازل إيقاعه وتقلق على نبضه وتتحدث باسمه هذا «الشارع»، رغم تحفظي الشديد عليه كمفهوم مؤثر يمكن تحديده بشكل علمي والرهان على نتائجه مبني على الإحصاءات، هذا الشارع هو مفتاح الحل، متى ما توجهت إليه السلطات ببرامج استراتيجية طويلة المدى على المستوى السياسي والاجتماعي والتعليمي من الإعلامي أن يتم التعامل معه كطرف حاسم ورئيسي في تشكيل الرأي العام، فيتم التحاور معه بشكل مباشر وتوضع قناعاته على مشرحة النقد والمساءلة، وهناك العديد من التجارب الناجحة لاسيما في المجالين الصحافي والفني، أثبتت على رغم محدوديتها وضآلة إمكاناتها نجاعة التصدي لمحاولات التضليل وبيع الأوهام للشارع العربي، حوارات كهذه تضع خيار العقلانية والواقعية السياسية في مقابل التجييش واللعب على العواطف، بينما الصمت وتجنب ما كان يُسمى محاولات خرق الإجماع العربي، تتسبب في إيجاد ثغرات عدة بسبب غياب البرامج السياسية الواقعية التي يجب أن تتبناها جماعات ومثقفون لا يعبرون بالضرورة عن رأي النظام الرسمي، بقدر أنهم يمثلون الواقعية السياسية ومنطق الدولة بما يمثله من إرث مدني. بات شعار دعم المقاومة الآن بفضل خطاب السيد نصر الله مشبوهاً ويدعو للكثير من التيقظ، وهذا ما سينعكس على وضعية «حماس» التي لا يزال صمتها الغريب يثير الكثير من الأسئلة حول انحيازها للمحور الإيراني السوري بشكل مندفع من شأنه أن يعطل كل جهود المصالحة والعودة إلى ما قبل الانشقاق مع فتح، وإذا كان مثل هذا الإنحياز سبب ضموراً في وضعية حماس مع دول المنطقة، فإن من شأنه الآن وبعد انكشاف محاولات استهداف السيادة قد يؤثر بشكل كبير على ما تبقى من حضورها في الوجدان الشعبي، على الأخص حركات الإسلام السياسي والتيار السني بشكل عام. إشارة السيد حسن نصر الله إلى «فزاعة» الطائفية تبدو رهاناً خاسراً، خصوصاً في هذه الظروف التي بدأت قناعة تشيع في «الشارع» ذاته، الذي ينحاز لخطاب المقاومة، بأن ثمة «طائفية سياسية» مرفوضة باعتبارها تحاول التقاطع مع خيارات المحور الإيراني السياسية، التي لا تعني بالضرورة أنها رؤية سياسية للطائفة الشيعية. الاختراق السيادي لن يمر إلا بكثير من التشظيات التي ستنعكس سلباً على صورة «حزب الله» و«حماس»، وربما مفهوم المقاومة باعتباره ذا آثار ارتدادية عكسية، وهكذا تتكرر المأساة في شكلها البسيط، انقسامات عربية وتعملق إسرائيلي.