لم يبق لنا سوى القيم القديمة، فالعالم الاستهلاكي الجديد لا يستطيع، بفعل ديناميته الحارقة، أن يتوقف ليتأمل ويستخلص قيماً تعكس أزمة العصر: هذا مختصر مفيد لمحاور الأعمال النحتية الضخمة التي ينجزها الأسترالي أندرو روجرز حول العالم. عنوان مشروعه «إيقاع الحياة» يتضمن أربعين تكويناً صخرياً ويتطلب 5500 عامل وحرفي في 12 بلداً عبر القارات الخمس، ويستغرق إحدى عشرة سنة. يختار روجرز أماكن معزولة بعيدة عن العمران والزراعات، بينها الصحارى وضفاف الأنهار والمضائق والمحميات الطبيعية والمرتفعات الشاهقة، ويعتمد أسلوب التناغم الكامل مع الطبيعة مستعملاً عناصرها الأصلية، هادفاً الى تواصل تاريخي يضرب عمقاً في الزمن وفي فضاء المكان. وهو ينوي تصوير إنجازاته بواسطة قمر اصطناعي عن بعد 450 كيلومتراً في المسقبل القريب، علماً أن الرؤية الشاملة لأي منها لا تتوافر إلا من ارتفاع لا يقل عن مئتي متر، أو من أبعاد أرضية مماثلة. «الوقت والفضاء» عنوان الحديقة النحتية التي شاهدنا أخيراً إنهاء تركيبها في منطقة كابادوكيا التركية حيث أقام روجرز ثمانية تجمعات صخرية يبلغ ارتفاعها 7 أمتار من الصخر الصوان زنة الواحد 15 طناً، بينها عمود مطلي الرأس بالذهب، يتوهج عن بعد كيلومترات لدى شروق الشمس. كان روجرز أشبه بمدير ورش ناطحات السحاب، يتحدث عبر «الووكي توكي» والخليوي في وقت واحد، ويركض في كل الاتجاهات كأن في ذيله نار وحوله فريق عماله يتلقى وينفذ. ولم تهدأ حركته حتى ارتكز الصخر الأفقي على الصخرين العموديين. عندئذ ارتاح وابتسم. مدخل الحديقة نصب أطلق عليه روجرز اسم «التنبؤ بالماضي» وهو قوس مفتوح يمكن دخوله من كل الجهات ويطل على سهوب شاسعة تشدك نحو وهم ميثولوجي على قدر كبير من الرهبة، فكأنه قوس الذاكرة الكونية أو حارس تلك القيم التي يعتقد روجرز أننا بحاجة الى تأمين استمرارها لأولادنا: قيم الكرامة الإنسانية، قدسية الحياة، الحرية والعدالة. ويقول روجرز إن المستقبل سيبقى غامضاً بالنسبة إلينا. «لذلك هناك انقطاع بين الماضي وما قبله كما بين الماضي والمستقبل والقوس هنا لا يعني إعادة تكرار الأمس بل تصوير الفرق بين الماضي والمستقبل أو لعله سؤالنا: كيف سيكون الغد؟». على المسطحات الأرضية خطط روجرز ستة تكاوين دينامية مستوحاة من تاريخ منطقة كابادوكيا ورموزها. كلمة كابادوكيا مشتقة من كاتباتوكا الفارسية أو «موطن الخيول الجميلة». من هنا جاء تخطيط الحصان البالغ طوله 60 متراً وعرضه 60 متراً أيضاً وهو مكون من ستة آلاف صخرة منحوتة وملزوزة بشكل جعلها تبدو بازغة من عمق الأرض. «إيقاعات الحياة» و«حجر المطحنة» تشكيلان تجريديان آخران يحتل كل منهما حوالى مئة متر مربع، ويعكسان وتيرة الحياة المرتبطة بالعمل اليدوي وتواصل الإنسان والطبيعة. «البأس» تكوين رابع استوحاه روجرز من شكل أسد مزدوج الهيئة فكأنه أسد بجناحين رآه النحات في مدينة السلطان أحمد على مدخل قيصرية، عاصمة القطاع قديماً. وتفيد المحفورات المجانبة لهذا الأسد أنه من تصور سلطان سلجوقي. ويبلغ طول التخطيط 830 متراً. هناك أيضاً شجرة نخيل تحتل مئة متر مربع استوحاها روجرز من نقش على قبر الأميرة صاه حاتون و«حورية» نستشف من تكوينها إيحاءات إغريقية تعود الى معتقدات الحياة بعد الموت. أمضى أندرو روجرز سنتين يفاوض السلطات المحلية لقبول مشروعه، ساعده عدد من قادة المنطقة والمثقفين والمعلمين. فما إن تمكن من تخطي العناكب الإدارية حتى كان عليه أن يواجه مشكلة التنافر القائم بين التركمان والأكراد والغجر والأرمن وغيرهم من العمال الذين يصرّون على أن يكونوا انعكاساً لكل أبناء المنطقة. إلا ان هؤلاء سرعان ما تأقلموا وشكلوا فريقاً منسجماً فباتوا يأكلون ويشربون معاً من دون حزازات. ثم واجه روجرز مشكلة أخرى حين أراد أن يدفع أجوراً متساوية للرجال والنساء، فخرج بعض الرجال من المشروع احتجاجاً على هذه المساواة المرفوضة. من الناحية الفنية كان عليه أن يشاور المؤرخين والمثقفين واختصاصيي التراث لتحديد المواضيع ذات الارتباط الوثيق بالمنطقة منذ فجر التاريخ، فقضية روجرز ليست فنية للفن وحسب بل هي إضافة عضوية متكاملة على فضاءات جغرافية فارغة جعل كل واحد منها معلماً «أبدياً» قادراً على الصمود في وجه العناصرز لذا كان عليه أن يوثق ارتباطها بالزمان والمكان الى أبعد الحدود. أنجز روجرز 11 عملاً آخر حول العالم خلال الحقبة الماضية أهمها في بوليفيا والولايات المتحدة وسلوفاكيا وسيريلانكا ونيبال والصين. وفي الصين لم يستطع جمع العدد الكافي من العمال المحليين ونقلهم الى صحراء غوبي، فأجبرته الظروف على قبول عرض السلطات بتوظيف ألف جندي لإنهاء المشروع: «لم أكن سعيداً بهذا الحل، وما زلت آسفاً لأنني لم أجد حلاً يوفر لي العنصر البشري المناسب للمكان المناسب» يقول روجرز. سألناه عن شعوره وقد شارف على إنهاء مشروعه الكبير فقال: «ألا تقولون بالعربية العمر ينتهي والعمل لا ينتهي؟ فليكن هذا المثل العربي عالمياً!».