ما الذي يدفع بأحد أشهر الروائيين في العالم للصعود إلى خشبة المسرح، ممثلاً للمرة الأولى في حياته، وهو على عتبة العقد الثامن من العمر؟ أهي النرجسية المتوطّنة في نفس الكاتب والتي لم تشفها نوبل الآداب... ولا الإطلال المتواصل على صدر أهم الصحف منذ ثلاثين عاماً؟ أم أن الكتابة وحدها ليست كافية لمواجهة القدر المحتوم للذات البشرية؟ يطل ماريو فارغاس يوسّا على خشبة أعرق المسارح الإسبانية في مدريد متقمصاً الدور الرئيسي في آخر أعماله المسرحية بعنوان "حكايات الطاعون"، المستوحى من رائعة الإيطالي جيوفاني بوكّاتشيو "الديكاميرون" التي وضعها في أعقاب موجة الطاعون التي اجتاحت فلورنسه في ربيع العام 1348. عبثاً حاول المقربون منه ثنيه عن هذه المغامرة، حتى أن زوجته قررت الذهاب إلى ليما رافضة حضور العرض الأول "هرباً من حرج أكيد... والمهزلة "! لكن ثمة جاذبية هي أقرب إلى الغواية في لعب دور الحكواتي الذي أبدع فيه فارغاس يوسّا سرداً وقولاً، فبات نجماً اجتماعياً بقدر ما لمع كروائي وكاتب صحافي. توقف عن كتابة الرواية الأخيرة التي كان منكباً عليها منذ عامين، وكرّس كل جهده لهذه المجازفة التي اعترف أنه يحلم بها منذ الصبا. ويعترف أيضاً أنه، منذ اتخاذه قرار تمثيل هذا الدور إلى جانب كوكبة من الفنانين المخضرمين عاش مسكوناً بالخوف من هذه الخطوة الانتحارية «خوف لم أشعر به عندما ألقيت كلمتي عند تسلّم جائزة نوبل، ولا عندما كنت أجوب البيرو في حملة الانتخابات الرئاسية» كما يقول. ويضيف: «لا أريد أن أموت منتظراً لحظة الرحيل... يحزنني ذلك كثيراً عند الآخرين. أنا معجب جداً بأولئك الذين يقاومون حتى النهاية، ويأتيهم الموت كحادث عابر يفاجئهم في عز نشاطهم». يقول المخرج إن أفضل كاتب مسرحي بالنسبة إليه هو الذي لم يعد على قيد الحياة «لأن ذلك يتيح قدراً واسعاً من الحرية في التعامل مع النص وإدارة الممثلين... لكن تجربة العمل مع الكاتب الممثل في حالة ماريو فريدة ومثرية للجميع... يتعامل بمرونة وانفتاح وتواضع مع اقتراحات المخرج وملاحظات زملائه، لكنه يدافع عن نصه بشراسة، وإذا خانته الذاكرة عند الإلقاء... تحصل المعجزة عندما يسارع إلى استبدال النص الأصلي مستخرجاً من قبعة الساحر أبهر الكلام». اعتاد فارغاس يوسّا أن يختار مواضيع رواياته من الأفكار التي تراوده بشكل متكرر، وإن على فترات زمنية متباعدة، وهذا ما حصل عند كتابة حكايات الطاعون كما يقول «قرأت مسرحية بوكّاتشيو شاباً وأعجبت بها... مجموعة من الشبان محاصرون داخل أسوار المدينة بسبب من المرض، فيقررون الذهاب إلى حديقة يرتجلون فيها الحكايات لتمضية الوقت... عاودتني الفكرة مرات وطالما رأيت فيها تجسيداً لأهمية الأدب والرواية والمسرح في الحياة، كلنا نبحث عن سبيل للهروب من الواقع، لنكون شخصاً آخر ونعيش حياة أخرى خارج المألوف. وهذا ما نفعله عندما نكتب رواية، أو نقرأها، أليس هو التوق إلى الحلم رمز الحياة والحيوية في المجتمعات البشرية؟». في «حكايات الطاعون» أطلق دون ماريو العنان للحلم والفانتازيا كما لو أنه ينافس بوكّاتشيو في جنوح الخيال عندما تحكم المصائب والكوابيس أسر الإنسان فتنسدّ المنافذ أمامه ولا يتبقى له غير الكلمة خشبة خلاص وحيلة لقهر العذاب والإحباط. وفي العرض الأول ارتوى صاحب «مدينة الكلاب» من إكسير المجازفات تحت الأضواء الكاشفة، لكنه لم يقنع أحداً بأن المسرح الذي اغتنى بأعماله كاتباً خسره ممثلاً حتى على أبواب الثمانين.