أمين مدينة جدة السابق المهندس محمد سعيد فارسي... السلام عليكم ورحمة الله وبركاته... أنا المواطن الموقع اسمي أعلى المقال، أود أن أعبر لكم عن شكري وامتناني على السنوات القليلة التي عشت فيها مستمتعاً بمدينتي العزيزة جدة، تلك المدينة التي حولتها بمهارة «الجواهرجي» إلى «أنشودة مطر» غنيناها طوال عقد من الزمن، فكانت وقتها قبلة الفن ومسرحه المفتوح، وساعة الجمال التي تأرجح عند أقدامها «كل عقرب» يريد تغيير اتجاه الزمن. جدة تلك المدينة الفارهة «حينك» الموغلة في القدم، التي بنتها لنا «أمنا حواء» لتكون باب الحياة وأم التجارة ومهوى أفئدة الفنون والهويات التي لا تنتهي، أضحت يا سيدي مدينة أطلال وبقايا فرح كان يمر من هنا. كما أود أن أبلغكم أنني قمت، ولسوء طالعي، بزيارة معتادة لما كان يُسمى وسط مدينة جدة التاريخي «البلد» خلال شهر رمضان المبارك... بحثاً عن جمال مفقود وأنس لوحشة المدينة المترهلة والقاطنة في الإهمال، علني أجد فيها خلوة مع جدة القديمة التي عرفناها صبية، متشحة بمعطف التاريخ وممسكة بتلابيب حضارات مرت من عند ساحلها البهي. والحقيقة أن تلك الزيارة حملت لي من الوجع والألم والحسرة الشيء الكثير على واقع كنا نعرفه ولكننا هربنا منه زمناً طويلاً، ألمي لم يكن بسبب ترهل المباني التي تم ترميمها وقت كان التاريخ يقف عميداً لجدة وحارساً لأبوابها التي تصد الريح وتدخل الهواء، ولا الأبواب الحديدية الصدئة ولا الشبابيك «الألمنيوم» التي ركبت بدلاً من الأبواب العتيقة «والرواشين» بل كان ذلك الإهمال الكئيب القاسي والفريد من نوعه لكل شيء، للأمكنة كلها للزوايا والأزقة الجميلة التي رسمت ذات يوم «على عينيك» ولونت بفؤادك. فمنطقة وسط جدة التي كانت درة المدينة وفيروزها الباذخ، والتي كانت الوجه الأخير من حضارة «الرواشين» وحجر البحر «المنقبي» عندما كانت تعبر عبر أزقتها وطرقاتها أهازيج البحارة وتراتيل البحر، وترفع عنقها نحو السماء، وتطل على البحر من عيون الناس تتلقف الصيد وتعيد إدارة الحياة، صارت مرتعاً للإهمال ومكاناً خصباً للنسيان، فأبنيتها «المتطاولة في البنيان»، تحولت إلى أشباح بيوت تغير عليها حقائق الزمن، الذي لا يرحم مهملاً ولا ينجي من عقابه معتذراً، ليغدو التاريخ في حضرة جدة القديمة ملاذاً آمناً لفقر القدرة والرؤية ومرتعاً للفئران وأرتال «الدبق» و«أنفاس» للقمائم والمياه الآسنة، لقد قسا عليها الإهمال فلا هي المدينة القديمة التي ارتوينا بها ولا هي التاريخ الذي بنيته لنا. هل تعلم أيها الأمين المتقاعد أن منطقة البلد اختصرت كلها في ليلة عيد وحيدة يخضب فيها «البيت اليتيم» وترص خارجه الطاولات والكراسي البلاستيكية بحثاً عن زائر مفقود أضاع الطريق الذي رصفته منذ 30 عاماً. هل تذكر الأرصفة التي بنيتها؟ هل تذكر الفوانيس العتيقة التي زرعتها بأشكالها وأبّهتها وكأنها عناقيد لؤلؤ منثورة بين الزوايا وعلى أوجه الطرقات؟ هل تذكر جمعك للرواشين والأبواب من خزائن الناس لتنصبها لوحة جميلة في عيون البيوت؟ هل تذكر غزلك للأزقة مشيعاً فيها الألوان والأسماء والمقاهي والخانات، هل تذكر التاريخ الذي بنيته من جديد ووضعته في صندوق الأمة وسلمته لمن بعدك أمانة للأجيال المقبلة؟ هل تذكر كل ذلك؟... لقد ذهب أدراج الماء المنسكب على عتبات الاسمنت الباهت والأسفلت المحقون بلا رحمة في أوردة تاريخ جدة، إنها فن الحلول العاجلة وإزالة الماضي، أليس «الحي أبقى من الميت» مثلما يقولون، لقد تمزقت جدة أيها المهندس مثل قماش تهده الرياح وتقسو عليه الشمس ففقد ألوانه وعمره! [email protected]