لمّا ينقضي صيف الكويت الحار من دون وقوع أحداث لها دلالاتها ورمزيتها في صراع المجتمع المدني للحفاظ على الحريّات وعلى الهوية الوطنية. فالانتصار الذي سجله المجتمع الكويتي في المعركة البرلمانية (انتخابات مجلس الأمة) في 15 أيار (مايو) الماضي، الذي قلّص عدد النواب الاسلاميين، والذي أوصل للمرة الأولى في تاريخ الحياة البرلمانية الكويتية والخليجية أربع نساء الى البرلمان، اثنتين منهنّ غير محجبات (أسيل العوضي ورولا دشتي)، هذا الانتصار، بكل معانيه، والذي تحقق على رغم كل الجبهات التي فتحتها تيارات الاسلام السياسي المتشدد في الكويت، لا يراد له أن يمر بسهولة. فبعد نحو شهر، انشغل الوسط النيابي الكويتي بمفاعيل وتفاسير حديث تلفزيوني أجرته قناة العربية الاخبارية مع الدكتورة موضي الحمود وزيرة التربية والتعليم العالي (في 18/7/2009)، الذي تحدثت فيه عن رغبة وزارتها في «تطوير المناهج التعليمية لتتوافق مع متطلبات العصر»، وأوضحت أن «هناك لجاناً خاصة تابعة للوزارة تقوم بدراسة الطلبات التي تقدم بها النواب الشيعة، وهي ستقرر التغيير من عدمه» في المناهج التربوية التي يرى بعضهم أنها مسيئة بحقهم. الأمر الذي أدى الى جدل وتصعيد مبالغ فيه من قبل النواب الاسلاميين المتشددين، أقام الدنيا ولم يقعدها، وترافق مع خطاب طائفي كريه كعادة هذه المرحلة الكويتية. ولم يمض شهر حتى نشرت جريدة «الجريدة» الليبرالية في 11/ 8/2009 خبراً عن إلقاء القبض على خليّة تكفيرية عرفت ب «خلية العريفجان» نسبة لموقع القاعدة الأميركية الأكبر في الكويت، والتي لم تكتف الخليّة الارهابية بالتخطيط لضربها، بل كان في مخططها استهداف وتفجير أكثر من موقع داخل العاصمة كما هو معروف عن أسلوب تنظيم القاعدة الذي تتبع له هذه الخلية حسب ما تبين من التحقيقات مع أفرادها. وفي الثالث عشر من نفس الشهر، أي في 13/8/2009، نقلت الصحف الكويتية خبر تلقّي النائبة معصومة المبارك عبر بريدها الخاص بمجلس الأمة رسالة تهديد طائفية «من شأنها اثارة البلبلة والفتنة في البلاد»، لم توفّر في اساءاتها النائبتين أسيل العوضي ورولا دشتي. واستمر هذا المزاج السياسي المعطّل للبلاد وقضايا التنمية فيها الى يوم الخميس 8/10/2009، عندما استيقظ الناس على فتوى صادرة عن ادارة الإفتاء وهيئة الفتوى في قطاع الإفتاء والبحوث الشرعية بوزارة الأوقاف أكدت وجوب التزام المرأة، سواء كانت نائبة أو مرشّحة أو ناخبة الزي الشرعي، أي الحجاب. وذلك في رد على سؤال برلماني وجهه النائب الاسلامي محمد هايف المطيري الى وزير العدل الذي أحاله الى وزارة الأوقاف. الأمر الذي شكل صدمة لدى مؤسسات المجتمع المدني والناشطين الحقوقيين، الذين رأوا في هذه الفتوى سابقة في الحياة السياسية من حيث اللجوء الى التحكيم الشرعي بدل اللجوء الى القانون الدستوري في أمور زمنيّة بحتة تخص ادارة البلاد، بل تمس الحريات الشخصية، ما أدى الى تصاعد مواقف الرافضين الذين رأى بعضهم أنه «لا يمكن للكويت أن تكون دولة طالبان الخليج». والحديث هنا عن «دولة طالبان» يأتي في سياق من تخوّف واستغراب هذه السلوكيات والأفكار، فبافتراض أن الاسلام السياسي يسعى لأسلمة المجتمع حيث ينشط، لا نجد منطقاً يبرر مثل هذا المسعى في مجتمع هو في الأساس محافظ ومتديّن، اللهم الا اذا كان الهدف هو فرض رؤية اسلامية متشددة لا نجد نظيراً لها الا في أفكار طالبان وأشباهها. واذا كان المزاج الاسلاموي في الكويت قد فرض على الدولة التخطيط لإنشاء مبنى جديد للجامعة، يراعي في موقعه وتصميمه وادارته متطلبات وشروط منع اختلاط الطلاب من الجنسين، وبتكلفة تزيد على 1.2 بليون دولار، الأمر الذي اعتُبر نكوصاً وتراجعاً في مدنيّة الكويت وتحضّرها التي كانت السبّاقة فيهما، رأينا المملكة العربية السعودية قبل أسابيع، تنقلب على تاريخ من التشدد الديني، وتفتتح جامعة علميّة عصرية مختلطة، في تنفيذ لرؤية الملك عبدالله الساعي لإحداث عملية تغيير جذرية واسعة في المملكة. فالكويت اذاً، تعيش أزمة، لا يمكن اختصارها وترميزها بالكلام عن اتساع نفوذ الاسلام السياسي المتشدد وتحكّمه بمرافق الحياة العامة. فالأزمة، في أحد وجوهها، هي أزمة مجتمع حيّ، يرى نفسه مطوّقاً ومحاصراً بأفكار وسلوكيات تعمل على خنقه، أو في أحسن الأحوال، على تجميده، وتفرض عليه رؤًى ضيّقة ومتخلفة، لتضعه تحت السيطرة. وهي أزمة تنافس بين مكونات المجتمع الكويتي المتعددة، أو بين من يدّعون تمثيلهم هذه المكونات، من سنّة وشيعة وقبائل، اذ استفحل النفَس الطائفي والقَبليّ في الخطاب السياسي الداخي، في مسعى لإثبات وتحقيق هيمنة البعض على البعض الآخر. وأقسى وجوه هذه الأزمة، عدم وجود رؤية واضحة للسلطة الحاكمة لبحث وتحليل مشكلات الحكم والعمل السياسي والخوض في أعماقها بحثاً عن حلول جذرية لها، ووضع حد لهذا المناخ السياسي، المحتقن والمتأزم، ومن ثم العمل على صياغة تقليد برلماني تمثيلي جادّ يضع في اعتباراته مصلحة الأمة وكيانها. ويبدو الأمر، في طبقاته الأعمق، أشبه بالانقلاب (حسب افتتاحية الجريدة). فكأن الدولة والمجتمع يشهدان انقلاباً سياسياً عبر المؤسسات، تقوم بها التيارات الاسلامية المتشددة، بنجاح يفوق غيرها من أصحاب الأفكار والتصورات المسبقة عن شكل الدولة، مستغلّة كل ما في العملية الديمقراطية من فجوات وعيوب وظواهر سلبية. وحدها الشعوب تُفشل الانقلابات، مهما بلغت حدّة الخُبث الانقلابي...والمجتمع الكويتي يمتلك أدوات الحسم. * كاتب سوري