مع نزول طائرة العاهل السعودي الملك عبدالله بن عبدالعزيز بمطار دمشق في السابع من الشهر الجاري، قالت المستشارة الإعلامية والسياسية للرئيس السوري ومضيف الملك الزائر، بثينة شعبان، ان العلاقات السورية - السعودية «تسير في تطور ممتاز». وهذا مقدمة لبيت القصيد: «هناك نية قوية لخلق فضاء وجو عربي يحاول أن يستفيد من الطاقات العربية لرفع كلمة العرب على الساحة الإقليمية والدولية». ولفظتا «نية» و «يحاول» وإن كانتا قرينة على الحذر والتواضع بإزاء المشروع الكبير والعسير، في ضوء الماضي القريب والبعيد، إلا انهما لا تلجمان طموح العزم، ولا تقيدان عرضه واتساعه. وإعلان المستشارة السورية لا يقتصر على النية، فيما يعني سياسة بلدها ورئيسه. فسورية سبقت الى «التنسيق(...) مع الصديقتين تركيا وايران لخلق فضاء اقليمي، عربي إسلامي، يستطيع أن يواجه التحديات الكبيرة التي تعترض الأمتين العربية والإسلامية». وعلى هذا، تكمل القمة السورية - السعودية السياسة الإقليمية والدولية التي ينتهجها الرئيس السوري، وترمي الى بناء حلف شرق أوسطي «متوسط»، من غير جناحيه، المغاربي أو الشمال افريقي والجنوب آسيوي. وتشبه «الخطة»، أو مدونة النوايا هذه، فكرة التوازن الاستراتيجي التي صاغها الرئيس السوري الراحل في العقد بين حرب تشرين (أوكتوبر) أو غداتها بقليل وبين تولي غورباتشوف قيادة الاتحاد السوفياتي في منتصف الثمانينات الماضية. وفي الأثناء، وقبل طي الفكرة وترك الكلام فيها، توالت مفاوضات كمب ديفيد الثلاثية ثم معاهدته المصرية - الإسرائيلية، وقيام جبهة الصمود والتصدي وانهيارها، وانفجار الحرب الإيرانية - العراقية، والحملة الإسرائيلية على المنظمات الفلسطينية المسلحة في لبنان وإجلاؤها عن أراضيه وإجلاء القوات السورية عن بيروت والجبل ثم عودتها، إلخ. ووجه الشبه بين المشروعين هو ارتسامهما في الإرادة والذهن السياسيين السوريين، ونهوض دمشق على رعاية ارتكازهما، وجمع موارد الإرتكاز هذا، وافتراضها في نفسها القوة على جمع الموارد والقدرة عليه. ويندرج المشروعان في اطار يكاد يكون واحداً هو «الوقوف في وجه التحديات وما يتعرض له المسجد الأقصى ومدينة القدسوالفلسطينيون من اعتداءات اسرائيلية». وهذه عبارة ظرفية وحادثة عن «القضية الفلسطينية»، قلب العلاقات العربية والإسلامية، وقلب «فضائها» تالياً، الأمس واليوم. والفرق الظاهر والبارز بين المشروعين، على رغم عسر المقارنة بين مشروع اختبر وطوي وبين آخر لا يزال وليداً و «نية» و «محاولة»، هو تعويل المشروع السابق على القوة العسكرية والديبلوماسية السوفياتية، وعلى تصدي محور عربي مشرقي الى محور عربي آخر يعول صراحة على سياسة القطب الأميركي، بينما يبدو المشروع الحالي أقرب الى اطار اقليمي، فرعي وعريض معاً أو متوسط العرض. ويعلن المشروع الحالي وجهاً ديبلوماسياً ظاهراً، هو قفاز حرير أو بمنزلته، تقوم الديبلوماسية التركية النشطة عنواناً عليه. وهو يبطنُ انجازات السياسة الإيرانية، وبعضها موروث من السياسة السورية أو يستأنف انجازات سورية، في لبنان وفلسطين والعراق والخليج و «الشارع» المشرقي عموماً وأفغانستان، الى الانجاز النووي المحوري والدور النفطي، انتاجاً ونقلاً وتوزيعاً. وبدا، يومها، ارتكاز التوازن الاستراتيجي السوري معقولاً على الصعيد الديبلوماسي، في وقت أو ظرف عربي تصدرته المسألة الفلسطينية، وأطبقت القبضة السورية فيه على معظم روافد المسألة، ودارت المنافسة السورية - العراقية - المصرية عليها في المرتبة الأولى. ويبدو الارتكاز السوري، اليوم، أصعب بكثير. ف «الصعود» المزدوج، الإيراني والتركي أضعف النطاق العربي عموماً، ومكانةَ المسألة الفلسطينية وقوتها على الجمع والمنافسة، وأدرجها أداة في برامج ومسارات متشابكة، وعقَّد بنية المشكلات والمعالجات والتوازنات. وجر الإرهاب المنظم والمعولم القوة العسكرية الأميركية، والغرب عموماً، الى قلب المشرق العربي وأطراف الشرق الأوسط. وكثَّر نهوض الصين، الى «العودة» أو «الصحوة» الروسية، أقطاب الخريطة الاقتصادية والاستراتيجية، ومصالح الأقطاب. وبمعزل من الدعوى السورية، أدت العوامل الفارقة التي حصيت للتو الى أقلمة القضايا الوطنية الداخلية، والقضايا الإقليمية الفرعية والمشتركة، على نحو عميق. فربط التدخل العسكري الأميركي المباشر في العراق (في اطار الحرب على الإرهاب، والخوف من الانتشار النووي «المارق»، والسعي في إرساء الغلبة الديموقراطية على العلاقات الدولية ودوائرها المتحفظة) وتجديدُ الخمينية الإيرانية في صيغتها الحرسية النووية، ربطا المسائل العربية الإقليمية عموماً، والمسألة الفلسطنية خصوصاً، بمحاور ونزاعات ومصالح تتجاوز الفضاء أو المسرح العربي الى مسارح عريضة مجاورة. وتجلو المحاور والنزاعات والمصالح هذه المسائل العربية الإقليمية، والوطنية الداخلية، في حلة إقليمية مختلفة عن الحلة المعروفة والمعهودة. وحين ذهب الرئيس الأميركي الجديد، في مطلع ولايته، الى أن حل المسألة الفلسطينية - الإسرائيلية «مصلحة (أميركية) وطنية»، احتج لرأيه بأن حلها ينتزع من السياسة الإيرانية، ومن أذرعها وأقنعتها العربية والمحلية، بعض ذرائعها القوية. ولم يستأنف الرئيس السابق، جورج بوش الابن، الدور الذي اضطلع به سلفه، بيل كلينتون، في معالجة المسألة نفسها إلا حين تعاظم خطر الإرهاب في العراق على تماسك العراق وعلى جيرانه العرب، وأرادت السياسة السورية التملص من القيود الإقليمية والدولية عليها في لبنان. فنَفَذَت العواملُ الاقليمية «الفضائية» الى ثنايا الأزمات الوطنية الداخلية، وفشت في أرجائها من غير حاجز عربي أو مصفاة عربية. ويكاد يقتصر الدور العربي على كسر مناعة الكيانات الوطنية، واضعاف تماسك الكيانات هذه في وجه العوامل أو الرياح الإقليمية الملتبسة بالنزاعات الدولية. والحربان الإيرانيتان على أراضٍ عربية، في لبنان (2006) وفلسطين (2008 - 2009)، قرينة متضافرة على التحاق المسرح السياسة المحلي الأهلي والعسكري، بالمسرح الإقليمي الدولي، فغداة حربي أفغانستان والعراب تخففت ايران من تهديدي طالبان وصدام حسين لقاء مرابطة قوات أميركية وغربية أطلسية على طول آلاف الكيلومترات من حدودها الغربيةالجنوبية والجنوبية الشرقية. وامتحنت ولايتا خاتمي «الإصلاحي» والمنكفئ على الداخل الإيراني، والأزمة الاقتصادية الداخلية المتطاولة، «الجمهورية الإسلامية»، ومتانة طبقتها الحاكمة، وتلاحمها، امتحاناً قاسياً. فجمع أحمدي نجاد، نيابة عن أجهزة القوة الإيرانية، التهديد الأميركي والإسرائيلي ويأس العامة الإيرانية الضعيفة والفقيرة في «برنامج» قومي - ثوري وعامي واحد، مولته طفرة أسعار الطاقة الجديدة. ورجع عن توقيع البروتوكول النووي الإضافي، وهو يخول الوكالة الدولية للطاقة الذرية تفتيش المنشآت الإيرانية من غير إخطار، وغذى «الوكالات» الإيرانية في العراق ولبنان وفلسطين إمدادات كثيفة. ولم يزدرِ رافد «القاعدة» حيث وسعه. ولم يخفَ على السوريين، ما يمكن أن يجنوه من الانعطاف الإيراني أو يستبقوه من دور أفل، وسورية تتوسط «ولايات» إيران و «فتوحها» العربية: العراق ولبنان وفلسطين. فلم يحل جسر عامي 2005 - 2006 حتى اشتعلت الساحات الثلاث، وقام بعضها على بعض، وأثمن على مقادير متفاوتة ومدمرة كلها. ولعل «خير» وأثمن ما حصلته إيران العربية والنووية معاً من انعطافها القومي - العامي والحرسي هو إرساؤها النزاعات الأهلية الوطنية (في الكيانات الوطنية) على ركن متين. والعراق هو، ربما موقتاً، إخفاقها الوحيد، والأرجح انها عوضته في اليمن وربما في القرن الأفريقي. ففي «الولايات» هذه، أثمر الانعطاف تتويجاً لسياقات ومسارات سابقة، بعضها قديم. فتبلورت كيانات فرعية، أهلية محلية وعسكرية أمنية، خرجت من «قمصان» دولها الضعيفة وإهابها، وناصبت دولها وسلطاتها «الأميركية» («الصهيوأميركية»: على قول اسماعيل هنية... «القومي السوري» البليغ) العداء والحرب. فحلت الثنائية القطبية، الإقليمية والدولية، الساحات الوطنية وأبنتيها السياسية الأهلية والإدارية، وقسمتها ومزقتها. وأبطلت عمل مؤسساتها وهيئاتها. وانقادت حركات إسلامية اخوانية، في الأردن وسورية ومصر، بعض الوقت، للتجربة والاختبار الإيرانيين. ولو قيض السلاح والاعتزال الجغرافي والأهلي، على شاكلات جنوب لبنان وغزةفلسطين وصعدة اليمن ومدينة الصدر البغدادية، لتفاقم الأمر (هذا إذا فات الوقت) وعظم. فالمصالحة والحوار يتصدران السياستين اللبنانية والفلسطينة منذ 2005 - 2006. وترجمة صدارتهما انهيار اللحمة الوطنية في البلدين وتولي الوسطاء، على أصنافهم ومراتبهم، أعباء المؤسسات والهيئات المتداعية. وأصابت حروب الاختيار الإيرانية الأدوار الإقليمية الوسيطة. فجرّت حرب غزة تركيا، وهي ندبت نفسها الى التوسط، الى اضعاف موقعها ودورها الوسطيين. وحملت الجبهة الفلسطينية «السنية» حزب العدالة والتنمية «الأوروبي» على ما لم تحمله عليه الجبهة «الشيعية» قبل سنتين. وما أخفقت السياسة الإيرانية في نيله من تركيا، من طريق التحريض الإسلامي والمذهبي، نالته، أو نالت بعضه في طريق «الشارع» الإسلامي. ويتهدد هذا، إذا استمر، وحدة الدولة التركية، والإجماع المدني والعسكري على شرعتها السياسية والوطنية. وعلى هذا، فوعود «الفضاء العربي الإسلامي» قد تكون مرة. * كاتب لبناني.