I - جدران - 1 - نعم، تحرسُ السياسةُ، وتسهر: لكن، ماذا تحرس؟ وعلى ماذا تسهر؟ أهنالك شيءٌ آخرُ غير الخطوات والكلمات؟ وما أبرعَ الشوارعَ في الاقتفاء، وما أنبهَ الجدرانَ في التنصُّت. - 2 - هل تعِبتَ من السَّير على قدميكَ في تلك الشّوارع التي يقودها الغَيب؟ إذاً، تعلّم أن تسير على أهدابكَ، أو على يديكَ، أو على أشلاءِ الأصدقاء. - 3 - لماذا، كلما حاولتُ أن أُعانقَ هذه المرأةَ البسيطةَ - الأرض، يسألني حارٍسٌ لا أعرفه: هل أخذتَ إذناً من السماء؟ - 4 - هل تزنُ حياتك؟ إذاً، لا تزِنها إلاّ بما لا «وزنَ» له: الضّوء. - 5 - بلَى، كلُّ ثمرٍ مُرٌ في هذه المدائنِ التي يُديرها الغَيب. - 6 - ما هذا العالمُ الحاضر؟ كأنّه غابةٌ ليس في ظِلِّها غيرُ الهجير. وكلّ عملٍ فيه سهمٌ لا يُخطئ الهدفَ وحده، وإنما يُخطئ كذلك المرمى. وما أكثر كلماته العمياء: كلماتٌ حرابٌ وأَسنةٌ، والبصيرُ هو دائماً فريستُها. - 7 - هل يُولّد قَتْلُ الآخرِ في نفسِ القاتل الشُّعور بأنّه لا يُسيطِر على القتيل وحده، وإنما يُسيطر كذلك على الموت؟ وهل في ذلك ما يُتيح للقاتل أن يشعُرَ باكتمالهِ، أو كمالهِ؟ هل الكمالُ صنوُ الموتِ؟ ألهذا كان كلّ اكتمالٍ نوعاً من الغياب؟ - 8 - - لم يعد يعرفُ كيف يُعطي لحياته معنى. - تقصد الإنسانَ في الغرب؟ - نعم. - والإنسانُ، عندنا؟ - يُعطي لحياته معنى، لكن بالتصوّر، بالاستيهام. يعتقد، مثلاً، أنه إذا ماتَ من أجل «قضيته»، فإن موته مقدمةٌ لانتصارها. يعتقد أيضاً أنه بموته هذا يُزيل الألمَ والشّقاء. كأنّ الإنسان عندنا يعيش في وهم الحياةِ، وفي حقيقة الموت. غير أن وهمَ الحياة يعني وهمَ الحبّ والفكر والشعر والفنّ، ووهمَ الإنسان. - 9 - كيف تكون مفكّراً، فيما «تحاذرُ»، و «تحتاط»؟ أن تفكّر هو أن تُخلخِلَ المستقرَّ الآسَن. كيف «يحتاطُ» شخصٌ مهمته، تحديداً، هي أن يقومَ بهذه الخلخلة، لكي يقدرَ أن يقول الحقيقة؟ كلّ فكرٍ يقوم على «الاحتياط» و «الحذر» إنما هو تحايلٌ ومساومةٌ ومصالحةٌ وتمويهٌ وحجاب. وهو، إلى ذلك، ترسيخٌ للشعور السائد بأنّ قولَ الحقيقة نوعٌ من الجريمة. - 10 - من أقفاصِكَ، أيها الوقت، كائناتٌ كثيرةٌ ميتة. لماذا، على الأقلّ، لا تُحرِّر هذه الأقفاص؟ II - حبّ - 1 - دخلتِ العاشقة حديقة البيت حيث يُقيم حبّها: الأزهارُ كلما تحوّلت الى شباكٍ تُطوّق خُطواتِها. ضحكت، وقالت: هل عليَّ، إذاً، أن أخيطَ ثوباً جديداً لكل زهرة؟ - 2 - هبّت ريحُ المساءِ، تضوَّع أريجُ الحديقة: الرّيح تقرأ الورد، والعِطرُ يكتبه. - 3 - العطر طِفلُ الوردة، غيرَ أنه، خلافاً لجميع الأطفال، يُولَدُ شابّاً. - 4 - يتجوّل الحبُّ في أنحاء الجسد وفي خلاياه، غير أنه لا يُقيم إلاّ في العَظم. - 5 - للجسدِ العاشقِ حِبرٌ لا يتوقف عن كتابة الرسائلِ إلى أعضائه. - 6 - من تتذكر أولاً أيّها العَسل: الزّهرةَ، أم النّحلة؟ - 7 - أمسِ، حين التقيتها، لم يسألني الليل إلاّ عن عينيَّ، خلافاً للعادة. - 8 - كلّما ازدَدنا تناقضاً، ازددنا إيغالاً في عالم الحبّ. والعكسُ صحيحٌ أيضاً. - 9 - الأحزانُ قبورٌ للرّغبات. - 10 - كلاّ، لا نُقيم شعريّاً على الأرض، إلاّ إذا كان الحبُّ هو نفسه هذه الأرض. III - كتابة - 1 - إذا لم نكتب الممكِنَ، فكأنّنا لا نكتب. ألهذا ليست كتابة الواقع إلاّ استنساخاً؟ ألهذا، لا تكون كتابة الواقع إلا انفصالاً آخر عن الكتابةِ، وعن الواقع؟ أهناك معنى لما لا يدخلُ في اللّغة؟ - 3 - للكتابةِ صحراءُ خاصَّة تسهرُ لكي تُحسِنَ التأمّلَ في الفراغ. - 4 - اللَّعبُ تجاوزٌ للقاعدة وللقانون. مع ذلك، لا لَعِب دون قاعدةٍ وقانون. الشّعر بخاصّةٍ، والفن بعامّةٍ، شاهدانِ ودليلان. كتابةٌ لا هُوَّةَ فيها، لا هويةَ لها. - 6 - الهُوةُ التي يعيش فيها العالم حاضنةٌ للهوة التي تعيش فيها الذات. ولا يقدر الشاعر أن يفهمَ هوّتهَ الذاتية، في معزلٍ عن تلك الهُوّةِ الحاضنة. وفي ذلك ما يفسّر علاقته الكيانيّة بالعالم كلّه، خصوصاً بعالمه - ماضياً وتراثاً، ديناً وسياسةً... إلخ. والأساس هنا هو أن يفكّر في الماضي، دون ماضويَّة، وفي التراث دون تراثويَّة، وفي الدين دون تدينيّة، وفي السياسة دون احترافٍ سياسي. الأساسُ أن ينظر الى الكون بوصفه كلاً، وأن يتأهَّلَ فيه، ويُحيط به، بوصفه كلاًّ - وأن يكوّنه، أو يعيد تكوينه، بوصفه شاعراً. - 7 - لا يمكن فهمُ النصّ الشعريّ الفهمَ الحقّ إلاّ في سياقه: - النظر اليه، معرفيّاً وفنيّاً، في أفق ما قبله، - في أفق الآن وما بعده، - في علاقاته الخاصّة مع ما قبله وما بعده، - النظر اليه، من حيث قيمته في ذاتها، معرفيّاً، وجماليّاً. في هذا ما يُتيح الإحاطةَ بمعنى النصّ، ومكانه في تاريخيّة الفنّ، والإحاطة، تِبعاً لذلك، بهويّته. النصّ الذي لا سياقَ له في لغته هو كذلك لا هويّة له. - 8 - لا نكتبُ الشيءَ حقّاً إلاّ إذا رأيناه بطريقةٍ يبدو فيها كأنّه هو نفسه يَرانا. - 9 - هل يمكن أن يكونَ كاتباً إنسانٌ لا قدرة له على الحبّ؟ - 10 - في زاويةٍ، في أَقصى قلي، غزالةٌ تبكي.