من السهل جداً لمقدمي البرامج، وكذلك ضيوفهم، إثارة قضايا شائكة؛ معقدة، فما إن يتفوه أحدهم بكلمة حول الجنس أو يخوض في مسألة شخصية أو سياسية حساسة، أو يوجه النقد «الفاقع» إلى فنان أو مطرب حتى تمتلئ صفحات الانترنت والجرائد والشاشات بالردود والتعليقات السخية! حتى ليعتقد المراقب أن ثمة من لا عمل له سوى «الاصطياد في الماء العكر»، والجلوس أمام الشاشة في انتظار هفوات هذا الفنان، وذاك السياسي كي يسطر تعليقاته العصماء، فتنتشر «الفضيحة» كالنار في الهشيم. ولعل هذا ينطبق على حلقات برنامج «الجريئة» الذي قدمته المخرجة المصرية إيناس الدغيدي، خلال رمضان الفائت، على شاشة «نيل سينما». إذ لم تكد تنتهي الحلقة حتى تجد ردوداً نارية تفوق في جرأتها ما ورد في البرنامج ذاته. لكن السؤال: أي جرأة تلك؟ فهل الجرأة هي التمادي في سؤال الفنانة رغدة عن علاقاتها العاطفية، كي لا نقول الجنسية؟ وما قيمة سؤال، وإن كان جريئاً، موجه إلى الفنانة زينة يحاول معرفة سبب رفضها القبلات على الشاشة؟ وسرعان ما اصبحت تفاصيل الحلقات معروفة، لكن الملاحظ أن الدغيدي انتقلت من وراء الكاميرا السينمائية، ذلك الموقع المناسب لها والذي مكنها من انجاز عدد من الأفلام المهمة («زمن الممنوع»، «دانتيلا»، «مذكرات مراهقة»، «لحم رخيص») لتقف أمام الكاميرا التلفزيونية، فراحت تمتحن ضيوفها عبر حضّهم على البوح والمكاشفة، وهي لم تكتفِ بذلك بل راحت تستكمل معاركها حول الحجاب الذي ترفضه، وحول مسائل أخرى تعد من المحظورات الاجتماعية، عبر أكثر من منبر. طبعاً للمخرجة الحق في التعبير عن قناعاتها عبر الشاشات، لكنها تنسى في غمرة انهماكها بالبحث عما يخدم رأيها ويجعله صائباً، حقوق الآخر في الاعتقاد بما يشاء، فتبدو كأنها وصية على «الجنس الناعم». وهنا تتحول «الجرأة المصطنعة» إلى محاولة فرض الرأي قسراً، من دون أي اعتبار لمشاعر من يرفض هذا الرأي، فالاختلاف هو الأمر الطبيعي والبديهي في أي قضية أو مسألة، ولعل العيب الكبير الذي يعانيه المشهد الثقافي والسياسي والإعلامي العربي يتمثل في السعي إلى فرض الرأي الواحد! الموقع الأنسب للدغيدي هو أن تقف خلف الكاميرا وتعبّر عن آرائها من خلال أفلامها، وعلى مسؤولي الفضائيات كذلك أن يدركوا أن «الإثارة الرخيصة» لا تضيف رصيداً ايجابياً لأداء محطاتهم، فليس أسهل، كما اشرنا، من الخوض، بصورة ساذجة، في مسائل حساسة؛ لكن الصعوبة تكمن في مناقشة تلك القضايا على نحو جدي مدروس، بحيث لا تكون الإثارة والجرأة هما الهدف، بل الاجتهاد للوصول إلى حقائق وأرقام ووثائق... وهذا يستدعي جهداً كبيراً ومضنياً، أما الاكتفاء بالجلوس في الاستوديوات المرفهة، وطرح الأسئلة على عواهنها فلا يعبران إلا عن العجز والإفلاس.