انتفاضة فلسطينية ثالثة عبارة يجري تداولها بكثرة في الأيام الماضية، - حتى محمد دحلان تحدث عنها - تعليقاً أو تنديداً بالمحاولة الإسرائيلية اقتحام المسجد الأقصى المبارك في ذكرى يوم الغفران اليهودي. والحقيقة أن الواقع الفلسطيني الحالي لا يسمح باندلاع انتفاضة ثالثة لأسباب عدة ذاتية وموضوعية. يتمثل السبب الأهم في رأيي بالانقسام الفلسطيني الذي يعصف بقوة في الساحة السياسية الفلسطينية منذ خمس سنوات تقريباً. الأولويات الآن، وحتى مع الأخذ بالنيات الحسنة، تقتصر على المصالحة وإنهاء الخلاف الحاد. والعناوين التي تهيمن على جدول الأعمال تنطلق كلها من ترتيب الوضع الداخلى وتتضمن الانتخابات بتفاصيلها الشيطانية القانون والدوائر وآليات الرقابة والإشراف وإعادة الإعمار وترتيب الوضع الأمني خلال الفترة الانتقالية علماً أن الاهتمامات والهموم تبدو متناقضة بين حكومتي رام اللهوغزة ولا حديث إطلاقاً عن أي انتفاضة. أولوية حكومة رام الله هي التفاوض مع إسرائيل وتهيئة الواقع المحلي ليتلاءم مع الانطلاقة المرتقبة للمفاوضات وفق خطة التسوية التى سيطرحها باراك أوباما والتى اشار الى خطوطها العريضة فى خطابي القاهرة ونيويورك. اما اولويات حكومة غزة فمختلفة بالطبع وتتمحور حول تهدئة طويلة مع إسرائيل وحكومة رام الله ورفع الحصار وإعادة الإعمار وتحسين الوضع الاقتصادي - الاجتماعي الكارثي والبائس في غزة. وحتماً ما بين التفاوض والتهدئة ورفع الحصار لا وقت البتة للشروع في انتفاضة ثالثة فى المدى المنظور على الاقل. هذا ذاتياً أو فلسطينياً. اما موضوعياً وفي ما يتعلق بالتطورات السياسية المرتبطة بالصراع في فلسطين، فثمة امر جوهري وأساسي لا بد من التنبه اليه حيث ان المنطقة فى انتظار خطة التسوية الاقليمية والشاملة الخاصة بباراك أوباما الذي تُعلق عليه الآمال فلسطينياً وعربياً أقله على المستوى الرسمي من أجل التوصل إلى حل نهائي للصراع. هذه الأجواء تتناقض مع تلك التى كانت سائدة في بداية العقد الحالي عند اندلاع انتفاضة الاقصى مع نهاية ولاية الرئيس الديموقراطي بيل كلينتون إثر فشل مفاوضات كامب ديفيد في التوصل إلى تسوية نهائية. اى ان الانتفاضة الثانية اندلعت على وقع انهيار المفاوضات ولا يمكن بالطبع توقع اندلاع انتفاضة ثالثة على وقع ترقب وانتظار وأمل الشروع في عملية تسوية جديدة تستفيد من الأجواء الدولية الايجابية والمستجدة منذ وصول باراك أوباما إلى البيت الأبيض. معطى آخر مهم فحواه أن الانتفاضة الثانية اندلعت بعد تسع سنوات تقريباً من نهاية الانتفاضة الاولى إثر انعقاد مؤتمر مدريد 1991، وإذا كان بالإمكان تأكيد توقف الانتفاضة الثانية في آذار (مارس) 2005، عند التوصل إلى وثيقة القاهرة واعلان تهدئة شاملة مع اسرائيل حتى نهاية العام نفسه فلا يكون منطقياً توقع انتفاضة أخرى بعد أقل من خمس سنوات، ناهيك عن أن الانتفاضة الأولى عبرت عن واقع الاحتلال المباشر للضفة الغربية وقطاع غزة وكذلك عن انتقال المعركة إلى الداخل بعد الخروج من بيروت 1982. أما الانتفاضة الثانية فترجمت وصول التسوية إلى حائط مسدود كما الواقع المستجد اثر إنشاء السلطة الفلسطينية أواسط التسعينات. اذن يبدو من الصعوبة بمكان توقّع انتفاضة ثالثة في ظل الواقع الحالي والاحتلال الذى اضحى غير مباشر - وان بدرجات متفاوتة - فى الضفة وغزة والرغبة ببناء اسس الدولة العتيدة خلال عامين من الآن انتظاراً لاتضاح آفاق التسوية مع نهاية الفترة الرئاسية (الأولى) لباراك أوباما وفى ظل الاجماع الفلسطيني على اولوية ترتيب البيت الداخلي كما حدث خلال عام 2005 وإعادة الإعمار والانتخابات وبناء المؤسسات الموحدة وبالتالي فإن تطوراً جذرياً نوعياً وكبيراً بحجم انتفاضة جماهيرية ثالثة لا يمكن توقعه فى المدى المنظور الممتد لسنتين على الأقل مع ضرورة الانتباه فى السياق الى ان التطرف والجنون العاصف بإسرائيل والذى يترك كل الاحتمالات مفتوحة ولو نظرياً. * مدير مركز شرق المتوسط للاعلام.