رغم أن المناسبة كانت علمية معرفية بامتياز، إلا أنها لامست السياسة في عمق، وأطلقت موجة تفاؤل نسبي، أو لنقل فتحت نافذة تطل على أكثر من مربع. المناسبة العلمية المقصودة هي افتتاح جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية والتي شهدت حضوراً عربياً وأجنبياً رفيع المستوى، ومن بين الحضور كان الرئيس السوري بشار الأسد، الذي أجرى محادثات دافئة مع العاهل السعودي حسب وصف وكالة الأنباء السعودية، وتلك بدورها اطلقت موجة التفاؤل في نطاقين ساخنين، أو مشكلتين عربيتين تبدوان لأسباب عدة عصيتين على الحل على رغم الجهود الكبيرة التي تبذل من أجلهما منذ سنوات. الأولى، الحالة اللبنانية، حالة الجمود في تشكيل الحكومة العتيدة المكلف رئاستها النائب سعد الحريري، والذي ما زال يجري مشاورات واحدة تلو أخرى، من دون أن يكون هناك أفق مفتوح على رغم الاتفاق العام على أن المشكلات التي تحول دون تشكيل الحكومة المنتظرة هي من نوع المشكلات الجزئية البسيطة التي يفترض ألا تعوق استحقاقاً دستورياً مهماً بحجم تشكيل حكومة لتسيير شؤون البلد. لكن الأمر تغير نسبياً مع اللقاء السعودي السوري، وكذلك بعد لقاء الأسد مع فؤاد السنيورة رئيس حكومة تصريف الأعمال الذي وصف اللقاء بالإيجابي أيضاً، إذ اعتبر المتفائلون أن الخط الأحمر تحول إلى أصفر بانتظار اللون الأخضر قريباً، أي التوافق على تشكيل الحكومة والخروج من دائرة المماحكات على تفاصيل صغيرة بائسة لا تغير التوازنات التي أتت بها الانتخابات، لكنها توقف دوران العجلة إلى حين تأتي الإشارات من الخارج. الحالة الثانية هي الفلسطينية، وتحديداً المصالحة التي ترعاها مصر انطلاقاً من مبدأ أن يكون القرار الفلسطيني خالصاً لوجه القضية، ونابعاً من إرادة ذاتية تؤمن بضرورة المصالحة وتوفر ضمانة الالتزام بالتفاصيل العديدة التي ستتضمنها أية مصالحة يُتفق عليها. والمنتظر حسب المعلن في القاهرة أن يوم 18 تشرين الأول (أكتوبر) الجاري سيشهد توقيع القادة الفلسطينيين على الورقة النهائية التي ستصوغها مصر بعد أن حصلت على الردود المطلوبة على طرحها الذي قدم قبل عدة اسابيع لكل الفصائل من دون استثناء. هذا الإعلان جاء عقب زيارة خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» للقاهرة للمرة الثانية في غضون أقل من شهرين، وهو الذي بَشّر من القاهرة بموقف ايجابي من «حماس» تجاه الورقة المصرية وقرب المصالحة مع حركة «فتح»، وذلك بعد أن اعتبرت مصادر «حماس» قبل يوم واحد من الزيارة أن القاهرة باتت الآن أكثر حيادية في الملف الفلسطيني. في الوقت ذاته خرجت تفسيرات لموقف «حماس» الجديد بأنه يعكس قناعة عملية بأن رفع الحصار القاسي عن غزة لم يعد متاحاً إلا كجزء من مصالحة شاملة. فالرهان السابق على انفتاح أميركي في ظل إدارة أوباما التي أعطت في بداية عهدها إشارات إيجابية نسبياً، وإن كانت ملتبسة بحكم الضرورة، بدا بعد تسعة أشهر رهاناً خاسراً، فلم تستطع إدارة اوباما ان تفتح ثغرة في المواقف الاسرائيلية اليمينية المتطرفة بشأن الاستيطان أو المفاوضات أو التخفيف من الحصار على غزة أو قبول «حماس» في قلب معادلات التسوية إلا بعد دفع ثمن باهظ. خسارة «حماس» الرهان على هذا النحو، هي بصورة أو بأخرى امتداد لخسارة دمشق الرهان ذاته على انفتاح اميركي أكبر عليها في ظل إدارة اوباما. وما كان في مطلع العام مبشراً بأن مياه النهر بين دمشق وواشنطن ستشهد تدفقاً اكبر، بدا بعد الأشهر التسعة الماضية نهراً بلا مياه أصلاً. وما بدا إعداداً لمفاوضات سورية إسرائيلية تحت مظلة رعاية إقليمية تركية تسندها رعاية دولية أميركية بالأساس، تبين أنه تطلعات بلا سند، ولن نقول وهماً كبيراً. تماماً كالتطلع في أن تعود عقارب الساعة إلى الوراء وتقبل إدارة أميركية ديموقراطية بدور سوري واسع المدى في الشأن اللبناني. ونذكر بما أكده اوباما للرئيس اللبناني ميشال سليمان بأن أي تسوية في المنطقة لن تكون على حساب لبنان. إذاً، الرهانات التي سادت مطلع العام، وكانت سبباً في أن تتمسك دمشق و»حماس» بمواقفهما من المصالحة الفلسطينية والأزمة اللبنانية ثبت أنها رهانات خاسرة، وتستدعي بدورها تعديلاً في المواقف. لكن الإنصاف يدعونا إلى القول أيضاً إن الرهانات الخاسرة ليست حكراً على دمشق و «حماس»، بل تطول أيضاً السلطة الوطنية الفلسطينية ورئيسها محمود عباس ووراءه حركة «فتح»، وهم الذين راهنوا بدورهم على أن إدارة اوباما ستنجح في الضغط على إسرائيل سواء بشأن تجميد الاستيطان، أو بشأن طرح خطة تسوية ومفاوضات منصفة للحقوق الفلسطينية، مما سيعزز موقف السلطة في مواجهة «حماس» أو مطالب مصر المدعومة عربياً وإسلامياً بالنسبة الى المصالحة وإعادة ترتيب البيت الفلسطيني ترتيباً كلياً. هكذا خسر الجميع رهانهم على إدارة أوباما، وتبدى الأمر بصورة تثير الشفقة في اللقاء الثلاثي الذي رتبه أوباما لأغراض أقل ما توصف انها علاقات عامة دولية، مع كل من محمود عباس وبنيامين نتانياهو في نيويورك على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة. صحيح أن اللقاء انتهى بإعلان ترتيب جهود أميركية مستقبلية من اجل الإعداد لمفاوضات بغض النظر عن تجميد أو تهدئة الاستيطان الاسرائيلي في الضفة الغربية والقدس، لكن المحصلة العامة لم تتغير على الأقل، فاندفاعة الاستيطان لن يوقفها أحد، بل بدت وكأنها حصلت على اعتراف واقعي اميركي على رغم إصرار الرئيس أوباما على وصفه بغير الشرعي، وهو ما أشاع الفرح ومشاعر الانتصار لدى نتانياهو شخصياً وحكومته اليمينية. لقد عزز بالطبع الانفتاح السعودي السوري صيغة (س س) كمفتاح لحلحلة الأزمة الحكومية اللبنانية حسب رؤية الرئيس نبيه بري المعلنة قبل حوالى عام، ويبدو أيضاً كمؤشر على أن المصالحة الفلسطينية باتت قاب قوسين أو أدنى. تدعم ذلك تصريحات وزير الخارجية المصري أحمد أبو الغيط لأكثر من مطبوعة عربية، والتي أكد فيها أن هناك نوعاً من التفاهم المصري - السوري حول عدد من المشاكل العربية تجري بلورته، وان هناك اتصالات غير معلن عنها، هدفها التقاء الطرفين على أرضية مشتركة في ما يخص القضية الفلسطينية والقضية اللبنانية. هذه الاتصالات تعني بدورها أن هناك خلافات في الرؤية ولكن لا توجد صرامة مصرية، كما يقول بعض السوريين، فالاختلافات في الرؤية حسب أبو الغيط لا تفسد العلاقات المصرية - السورية. فهي علاقات لا تتسم بالحرارة ولكنها ليست باردة. الخلاف بين القاهرةودمشق ليس حول الرؤية الكلية التي تحكم النظام الإقليمي العربي، وانما على بعض التفاصيل المتعلقة بتطورات جارية، ولكنها أساسية وتتعلق بمصير النظام العربي بدرجة ما. ومعروف أن لمصر تحفظات واعتراضات على موقف سورية تجاه قضيتي المصالحة الفلسطينية والأزمة اللبنانية وهي تحفظات مستمرة منذ فترة تقارب عامين، وقد اتسعت مساحة هذه التحفظات في كانون الثاني (يناير) الماضي إبان العدوان الاسرائيلي الهمجي على قطاع غزة، حين بدا الموقف السوري ضاغطاً بقوة على الاداء المصري في احتواء العدوان الاسرائيلي. وعلى رغم انتهاء العدوان بدا كنتيجة ولو جزئياً لجهد مصري مكثف وفي اكثر من اتجاه، فقد استمر شعور مصر بالضيق موجوداً لفترة طويلة. ربما خف هذا الشعور في الفترة الجارية، ولكنه لم يختف تماماً. ويبدو ذلك من التحفظ المصري على الانفتاح على دمشق كما كان الوضع في السابق. تظهر مواقف مصر الآن وكأنها تنتظر نتيجة اختبار نيات دمشق بالنسبة الى جهودها للمصالحة الفلسطينية، واختبار سياسات دمشق أيضاً بالنسبة الى تشكيل الحكومة اللبنانية. الوزير ابو الغيط كان واضحاً تماماً في هذا الأمر، فهناك على حد قوله «بعض القضايا التي نريد أن نرى فيها حركة، مثل لبنان، وعندما نرى هذه الحركة، فالمؤكد أن مصر ستكون راضية وتتحرك نحو سورية»، ومؤكد أيضاً أن «سورية لديها اهتمام تاريخي استراتيجي بلبنان نعترف به، والدور السعودي داعم على نطاق واسع، ونحن نسعى إلى تشكيل حكومة لبنانية في اسرع وقت ممكن»، ونحن اي مصر «نطلب من سورية ان تساعد في حلحلة الملف الفلسطيني لأن لديها قدرة تأثير على موقف حماس ودائماً نقول لهم ساعدونا وهم يقولون أنهم يقومون باللازم». إذا أردنا تجميع عناصر الصورة، يمكن ببساطة القول إنها تجمع بين إخفاق وبين أمل، والمفارقة ان الإخفاق في الرهانات غير الواقعية، يعزز الامل في ضرورات لا مناص منها مما يفتح نافذة نحو مصالحة عربية هي اكثر من ضرورة وفقاً لملابسات الوضع الراهن. * كاتب مصري