قرأت مرة أن النشيد الوطني يطول بقدر صغر الدولة أو قلة أهميتها، وأحاول اليوم تطوير هذا الرأي بالقول إنه كلما صغرت الدولة وقلّت أهميتها طال خطاب ممثلها في دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة.ليس هذا تعليقاً على خطاب العقيد معمر القذافي، فقد أُشبع الخطاب والخطيب بحثاً، وإنما على الخطب كلها، وأنا أسمع خطيباً من توفالو أو سانت كيتس ونيفس وهو يحاول أن يحل مشاكل العالم، وأقول في نفسي: خطبت فكنت خطْباً لا خطيبا/ يضاف الى مصائبنا العظام. في الجمعية العامة تُعامَل الدول بالمساواة وتصبح الصين وبالاو من حجم واحد وستة مقاعد لكل منهما، والنتيجة أنني أواجه كل سنة ما أسميه «امتحان ولاء»، فقد اضطررت يوماً أن أسمع خطب البهاما وجزر سليمان وكازاخستان وبنين والفيليبين وأذربيجان وغابون قبل أن يحل دور المغرب الذي كان في آخر القائمة. وفي اليوم التالي كانت المملكة العربية السعودية في الدور قبل الأخير، وسمعت كلمات بيلاروسيا وأثيوبيا ورومانيا وبروناي وليختنشتاين وكندا وأندورا قبل أن أصل اليها. الرئيس ميشال سليمان كان بين بوركينا فاسو والصومال. وبعده بقليل تحدث الرئيس محمود عباس ثم رئيس وزراء الكويت الشيخ ناصر محمد الأحمد الصباح، وكانا بين انتيغا وبربادوس وموريشوس. وأبو مازن ترك نيويورك الى كوبا، وقلت في نفسي وأنا أودعه: نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا... عدو السلام والأخلاق والأدب بنيامين نتانياهو تبع رجب طيّب أردوغان، وسبحان الله فكل انسان له من اسمه نصيب، والأول «نتن» والثاني «طيّب». وكنت أنظر الى نتانياهو وأفكر كيف يبدو شكله لو أن له شاربين، ثم أفكر لو أن شنبه يحترق هل أبصق عليه لأطفئ النار. هو لا يستحق حتى بصقة. أعرف أنني أتجاوز أحياناً حدود الأدب في ما أكتب عن الليكوديين والفاشست الآخرين في اسرائيل، إلا أنني أجد في اهانتهم متنفساً، فلا أنفجر غضباً، لأنني ضد الحرب ولا أريد لأحد الموت حتى لو كان نتانياهو أو شارون. ثم إنني لست في موقع سياسي فأضطر الى مصافحة نتانياهو كما فعل أبو مازن، وإنما أفضل أن تقطع يدي قبل أن تمتد لمصافحة أمثاله لأن مياه المسيسيبي لن تغسلها من دماء الأبرياء بعد ذلك. في مثل هذا الوضع، وبما أنني طالب سلام مزمن، لا يبقى سوى أن أهين أعداء الانسانية، وأصر على أنني لا أفيهم حقهم في الإهانة، لأن القارئ العربي الذي سمع العبارة «حثالة البشر» يجب أن يصدقني وأنا أقول إنهم «حثالة الحثالة». المندوبون الذين هنأوا الرئيس سليمان والرئيس عباس بعد خطابيهما كانوا أكثر كثيراً من الذين وقفوا مع نتانياهو، فهؤلاء كانوا حرساً أو ليكوديين مثل رئيس وزراء اسرائيل. وهو تحدث بغطرسة وكذب كما تنفس، ثم غادر ولم يعد فهو لا يحتاج الى أمم العالم والكونغرس الأميركي في جيبه. ولم أرَ على مقاعد الوفد الاسرائيلي بعد ذلك غير شابة واحدة. وكنت جلست مع الوفد اللبناني وأمامنا مباشرة وفد اسرائيل، وأنا أفكر في صَفْع الرقاب، أثناء خطاب نتانياهو، ثم لا أفعل، أما هم فيفكرون في القتل ويرتكبون جرائم كل يوم، ويقتلون النساء والأطفال. على رغم النَتَن الاسرائيلي كان الجو في الجمعية العامة للأمم المتحدة مريحاً هذه السنة، فثمة إجماع عالمي على الترحيب بالرئيس باراك أوباما وفتح صفحة جديدة مع الولاياتالمتحدة بعد نكد السنوات الثماني السابقة مع جورج بوش الابن، أو الولد. الرئيس هوغو شافيز لم يغلق أنفه بإصبعين وهو يزعم أنه يشم رائحة كبريت بعد أن تبع بوش على المنصة قبل سنتين. ومحمود أحمدي نجاد طلب أن يعامل كصديق، والعقيد القذافي على رغم طول خطابه المضني، رحب بالرئيس أوباما وتمنى أن يبقى رئيساً مدى الحياة... مثله. ثم هناك السيدة سوزان رايس، سفيرة الولاياتالمتحدة لدى الأممالمتحدة، فقد كنت أنظر اليها ثم أفكر بأمثال جون بولتون الذي مثل اسرائيل في الأممالمتحدة قبل «بلاده»، وأرحب بالتغيير في السياسة الأميركية. وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون أفضل من كوندوليزا رايس، والسيدة سوزان رايس أفضل من جميع سفراء بوش لدى الأممالمتحدة مجتمعين. وفي حين أنني أنطلق في رأيي من قضية الشرق الأوسط، وما نريد وما نتوقع، فإنني أيضاً أحكم على الادارة الجديدة على أساس تعاملها مع العالم كله، وأجد ايجابيات كثيرة. أخيراً، كنت أمشي كل يوم من الفندق الى مقر الأممالمتحدة وأمشي عائداً، وأسبابي أنني أحب المشي، وأنني أوفر مالاً في ظل الأزمة المالية العالمية، وأن المشي أسرع من التاكسي في ظل زحام السير والاجراءات الأمنية المكبلة. هذه السنة احتفلت بثلاثين سنة من متابعة دورات الجمعية العامة، فقد بدأت سنة 1979، ثم احتفلت بجلاء الرئيس أوباما عن الفندق حيث نزل ونزلت فقد جلت معه اجراءات الأمن، وتُركنا نواجه مصيرنا في شوارع نيويورك.