عندما تهبط بك الطائرة في مطار بيروت الدولي، يشدّك وجود بناء ضخم على شاكلة قلعة على تخوم المطار، قبل أن تمرّ بك السيارة أمام القرية اللبنانية المسماة «الساحة» التي يعطي تصميمها رونقاً يعيدك الى قلاع العصور الأموية والعباسية والمملوكية بحيث ترتفع الحجارة الكبيرة الضخمة مع تعرجات و «كوّات» تماماً كما في القلاع الضخمة. وبدخولك الى قلعة الساحة الأثرية، تكتشف عالماً سياحياً مميّزاً مع خرير الماء والأقنية والنواعير الضخمة فضلاً عن مجسمات وزوايا أثرية وعربات خيل وسيّارات تعود الى أوائل القرن التاسع عشر، الى جانب المطاعم و «التراسات» و «العلّيات». واللافت تشييد «موتيل» فريد يحوي غرفاً متعددة التصاميم من الطراز الأندلسي الى الفارسي والباكستاني فاليمني والمغربي والتونسي وصولاً الى الياباني والأوروبي واللبناني الشرقي والغربي. وتشكّل قرية الساحة التراثية أنموذجاً مصغراً للقرية اللبنانية بتفاصيلها وأجزائها. ولما كانت المهن والحرف اليدوية التي هي مصدر رزق أهالي القرى في طريقها إلى الاندثار، كان لا بد من التفكير في إعادة إحيائها بأسلوب حديث مبتكر يتلاءم والحياة التي نعيشها اليوم. من هنا جاء متحف الساحة التراثي صورة حيّة لتلك المهن والحرف، لتكتمل حلقات الساحة المتسلسلة. المتحف توثيق يجسد بالصورة والصوت موروثنا الشعبي، ومعلمٌ سياحي من شأنه الارتقاء بالسياحة من خلال تقديم منظر فريد يعكس الصناعة الوطنية ويحتضن مفاصل حيوية من حياة القرية اليومية، ليعيد إلى الأذهان صور الحرف والمهن والصناعات ذات العراقة والتاريخ باحتفاء بهي ينفض عنها الغبار، ويقدمها أنموذجاً حياً للضيوف والزوار يقص عليهم حقبة من الزمن أصبحت في ذمة التاريخ. بدأ المعماري جمال مكة بجمع وشراء المقتنيات والعناصر الأثرية المعروضة منذ سنوات عدة، واستغرق هذا العمل عدداً من الزيارات المتكررة إلى قرى ومناطق لبنان التي ما زالت تحافظ على روحية تراثه القديم. وبعد النجاح اللافت الذي قابل افتتاح الساحة - قرية لبنان التراثية، استلهم المصمم والمنفذ عبدالكريم مكة فكرة تنفيذ المتحف وتجسيد أصحاب تلك المهن التراثية بعدما لمس الشوق والحنين إلى تلك الأيام في وجوه وافديه من كبار السن، والفضول والإعجاب في عيون زائريه الشباب والصغار، فعقد العزم وقام بزيارة الأسواق التجارية والمواقع التاريخية والأثرية المعروفة، ومنها صور وصيدا وبعلبك وجبيل ومناطق الهرمل... كان اختصاص المصمم في مجال مختبر الأسنان عاملاً مهماً سهل له التعامل مع مادة «الأكريل» التي استعملها في نحت الوجوه والأطراف، باعتبارها مادة تتميز بالليونة والتماسك في الوقت نفسه. كما استخدمت آليات عدة مبتكرة تم تصنيع بعضها أو تعديل أدائها الميكانيكي لإظهار الحيوية اللازمة لشخصيات متحف الساحة، إذ تبدأ حركة المجسمات والآليات مباشرة عند التقاط الكاشف مرور زواره الكرام. واستعملت التقنيات السمعية في بعض العناصر كطرق المهباج، والبصرية كدخان النارجيلة، وكثير من مؤثرات الإضاءة التي اجتمعت لإيضاح صور أهل القرية وأسلوب حياتهم ومهنهم القديمة. ومن أبرز أقسام المتحف: خيمة القهوة العربية، السوَّاس (بائع العرقسوس)، الغزَّال (الحيّاك على النول)، غزل البنات (شعر البنات، حلاوة القطن، لحية بابا)، جرَّة المخيض، الحاكي (الغرامافون/ الفونوغراف)، المصوَّراتي، مدقِّة الثوم وجرن الكبة، الكندرجي (الإسكافي)، الجاروشة، الطابونة (فرن منزلي)، الفخَّرجي (صانع الفخار)، الحدَّاد، المجلِّخ والمبيّض، الأزاز (صانع الزجاج)، المورج (النورج)، التنور والصاج، المنجِّد، وغيرها.